تقترن عندي مقهى « لانغولو » بالفقيه بن صالح بأمسيات الصيف المُنعشة التي كُنت أقضيها هناك لوحدي دون أنْ أكلّم أحداً. في ذلك المقهى الجميل المفتوح على صيحات الديزاين المعاصر، قرأت عشرات الكتب الأدبية والمتون الفكرية، وأحياناً كانت تأخذ مني بعض المؤلّفات أنْ أقضي نصف يوم داخل المقهى، دون أنْ أشعر بملل أو مغص في معدتي بسبب كثرة القهوة. دائماً ما كُنت أجد المقهى أنيقاً وفي حلّة مختلفة بطريقة يبدو لي وكأنّ الروح تُبعث فيه من جديد. رواد المقهى لا يتغيّرون أبداً وإذا ظهر أيّ جديد، فإنّه غالباً ما لا يعود مرّة أخرى، وذلك لأنّ النظام الصارم والجميل للمقهى يجعل الكثير من الطحالب ترتاد مقاهٍ أخرى تُوفّر لها مباريات كرة القدم والصخب والكلام الساقط.
أغلب الرواد من شباب المدينة، بحيث أنّ الزائر للمقهى يجد نفسه مُحاطاً بالأجيال الجديدة. ورغم تأثرهم بالصيحات المعاصرة من ناحية الموسيقى والهواتف الذكية والسيارات الفارهة واللباس الحديث، فإنّ أغلبهم يمتلكون سمعة جيدة داخل مجالات عملهم في التعليم والصحّة والصناعات التقليدية وبيع المواد الأولية وغيرها.
شخصياً، لم أكن أجد أيّ مشاكل في القراءة والكتابة والاستمتاع بالتأمّل والصمت، إذْ رغم كثرة المقابلات الكروية المسائية، يظلّ المقهى مُحافظاً على نظامه الداخلي وعلى أناقته المعهودة. أمّا العاملون فيه فهم من أبناء المدينة، يُجيدون الوفاء والاحترام للزبناء ويُحوّلونها إلى صداقات أبديّة. فلم أرى مثلاً طيلة السنوات القليلة التي أمضيتها هناك أيّ أحد يدخل في شجار مع أصحاب المقهى، بل يُخيّل إليك وكأنّك في جوّ عائلي تطبعه المحبّة والاحترام.
أؤمن أنّ مدينة الفقيه بن صالح على الرغم ممّا تعيشه من ألم ومعاناة، تظلّ ساكنتها الأجمل ممّن رؤيتهم في حياتي. شبابها العاطل عن العمل بسبب مشاريع واهية ووعود كاذبة وآفاق ضيّقة يمتلكون مواهب كثيرة في الرقص والغناء والباركور والكتابة. وجوهٌ موهوبة كثيرة عاينتها منذ طفولتي أجدها اليوم عاطلة عن العمل وتعاني من التآكل والضياع داخل دوّامة اليوميّ. لقد أهلكت السياسة ومشاريعها الكاذبة أجساد الشباب بالمدينة وحولتهم بأخلاقهم وثقافتهم ومواهبهم إلى مجرّد « أشباح » تُفكّر في الهجرة، رغم أنّ هذه الأخيرة، مقرونة في مخيّلتهم بالعودة إلى المدينة. إذْ لم أرى في حياتي شابا من أبناء المدينة كبلته سلاسل الغربة وحولته إلى عبدٍ لنظامها ومؤسساتها وشركاتها. كان يقول لي أحد الأصدقاء الذين ماتوا في البحر بأنّه في الفترة التي عاش فيها « بلا وراق » في إيطاليا دائماً ما كانت المساءات الباردة تُشعره بالبكاء، فبمجرّد أنْ يرخي الليل سدوله، حتّى يُباغته حنين كبير إلى والدته ووالده وأصحابه، لكونه تمنى دائماً العودة إلى مدينته كي يغرس فيها وردة.
غير أنّ القدر كان يرسم له رحلة أخرى إلى السماء، بعدما مات غرقاً في البحر والسلطات الإسبانية تحاصر ذلك المركب الذي بدا وكأنه نعشاً. كيف نتخلّص من آلامنا وأحزاننا؟ كيف نُواصل المشي بعد أنْ نُودّع من نُحبّ؟
في الصيف يجذب المقهى كلّ الناس الذين يعيشون في الخارج، إذْ غالباً ما تعشق الجالية هذا المقهى وينسجون معه علاقة محبّة واحترام، بسبب ما يُتيحه هذا الفضاء من راحة وصمت وقهوة لذيذة ورفقة طيّبة ووجوهاً تعشق الفرح والاستجمام.
في الصباح كان يحلو لي الجلوس داخل المقهى قريباً من الزجاج، فهذا المكان المقابل لـ « الكونطوار » من جهة اليمين، كان يُتيح لي إمكانية معرفة كلّ ما يجول في المقهى. العاملون في المقهى شباب مهذّبون يُحبّون رواد المقهى ويتعاملون معهم على أساس أنّهم من « أهل البيت ». بل إنّهم يحرصون على تقديم الأفضل للناس.
شخصياً أجد في « سعيد » و« ياسر » ثنائياً جيداً، لا لأنّهم يُجيدون صنع قهوة الصباح وشاي المساء، بل لأنّي أرى فيهم وجوهاً أخرى عشت معها في طفولتي، فسلوكهم اليوميّ وفرحتهم تُذكّرني بما عشته وأنا صغير بتلك المدينة قبل أنْ أهاجر إلى الدارالبيضاء رفقة العائلة ذات صيفٍ حزين من عام 2010.
ذكريات أستعيدها هذا الصباح عن ذلك المقهى الذي قضيت فيه حوالي 3 سنوات وبشكل يوميّ من أجل القراءة والكتابة والحلم، لا لأنّي أفتقد المقهى وناسه، بل لأنّ تلك المرحلة كانت الأكثر حزناً في حياتي. فإذا كنت أستعيد ذكرى هذا المقهى، فقط لأنّي أشكر كلّ تلك الوجوه التي كانت تُظلّل يومياتي في علاقتي بالقراءة والكتب والحياة.
في المساءات الصيفية المنعشة دائماً ما أحببت الجلوس على « طيراس » حيث تُتيح لي هذه الخلوة أنْ أتأمّل غروب الشمس وراء « المَحْرَكْ » وأنْ أرقب الخيط الأوّل من القمر وهو يتشكّل مُبتهجاً في سماء المدينة. كلّ هذا قبل أنْ تبدأ جحافل الفتيات في القدوم إلى المقهى للجلوس في « السدة ». أوقاتٌ جميلة قضيتها في ذلك المقهى، لأنّها كانت مُفيدة لي على مستوى القراءة والتكوين الشخصي، بعيداً عن التصنّع والتعجرف. مع العلم أنّه لم يكُن أيّ حد يعرف من أنا وماذا أفعل وما طبيعة عملي. كُنت أجلس يومياً أطارد الفراشات (الأفكار) والعلامات أدوّن ريقها وبريقها.
تتميّز " لانڭولو » بمظهر جميل، يجعل تصاميمها معاصرة. وأنا شخصياً كنت دائماً أطرح السؤال على نفسي: كيف لصاحب المقهى أنْ يُفكّر في هذا التصميم المُذهل والمصنوع من الخشب والزجاج في جعله علامة بصرية للمقهى؟ ورغم أنّ " لانڭولو » لا يُمكن أنْ تعثر فيها على ناس كثر، مقارنة بمقاهي شعبية أخرى، إلاّ أنّ روادها قلائل وبالتالي، تبقى الأجمل عندي في المدينة. تُقدّم " لانڭولو » صورة جميلة عن الطريقة التي ينبغي أنْ تكون عليها المقاهي في الزمن المعاصر. فالمقهى يتميّز بنظافة كبيرة وبتنظيم أصيل وبتعامل يجعل الناس يأتون إليها بشكل تلقائي.
في فترة كورونا كنت أهرب من الناس بسبب خوفي على جدّتي وجدّي وكنت أتي لهذا المقهى والجلوس في « السدة » حتى أتحاشى الناس. كنت أجلس يومياً من الساعة الثامنة صباحاً إلى الثانية ظهراً وبدون توقف كُنت أكتب وأقرأ وأتعلّم بدون أنْ ألفت الانتباه إلى أيّ شخص من أنا. أتذكّر كم كانت تلك الأيام جميلة، حيث الكلّ يضع كمامته ويشرب قهوته في صمت. وجدت في " لانڭولو » البيت الآمن للاحتماء من عدوى كوفيد، لأنّه كان المقهى الوحيد في المدينة الذي وفّر جميع شروط السلامة الصحية عن طريق الكمامات والمعقّم والتباعد الضروري حسب ما كانت تفرضه السلطات في المدينة. وفي الوقت الذي كان فيه هذا المقهى يُطبّق جميع شروط السلامة الصحية، كانت مقاهي أخرى غاصّة بالناس ولا تحترم أيّ شرطٍ منها. فحين يختلط الجهل بسوء التدبير السياسي، ماذا سينتظر المرء؟