ولدت داخل عائلة مهاجرة، لم تعرف الاستقرار في المغرب، إلاّ في اللحظة الأخيرة من ولادتي. أخبرتني والدتي أنّ حدث الولادة بالنسبة لها، كان شيئاً كبيراً على مُستوى اختيار المكان الذي ستستقرّ فيه. وذلك بعد عودتها من سويسرا وإيطاليا، رغبة منها في الرجوع إلى أرضها على حدّ تعبيرها. الوالد لم يعرف الاستقرار يوماً، بعدما قضى أكثر من 40 سنة في إيطاليا. لكنْ بعد ولادتي وقبل أنْ تُقرّر والدتي الاستقرار في المغرب، تكلّفت بي جدّتي التي قضت أيضاً سنوات طويلة في المهجر. كُنت محظوظاً مقارنة بباقي أفراد العائلة أنّ أمي ستُسلّمني إلى جدّتي. لقد تعلمت من جدّتي كلّ شيء تقريباً. في منزلها المُكوّن من طبقتين بنيت أحلامي وكوابيسي وأفراحي وأحزاني.
في ذلك البيت البسيط المكسوّ سطحه بالجير الأبيض الرخيص، ظللت أعيش على ضوء شمعة مُمّل. متعتي كانت أنْ ألمح قطرات المطر المتدحرجة على سطح البيت. أصيص الزهور على عتبة البيت شاهد على طفولة لم تنته. بيتي المملوء عن كامله بصور النجوم والكتب وكاسيتات الأفلام التي كانت تُهرّبها جدّتي من إيطاليا، كانت كافية بالنسبة لي، أنْ أفهم معنى أنْ يكون فكر المرء حداثياً مشدوداً إلى ما يُنتج ويُكتب داخل الثقافة الغربية. هذه الأخيرة، منها تعلمت كلّ شيء. وقبل تختطفني الكتابة بالعربية، عشت سنوات طويلة مُلتصقاً بمسّام الأدب الفرنسي، وأنا أحلم في ذلك الإبان بزيارة باريس ومقاهيها وحاناتها وألتقي بكتابها ونجومها.
أتذكّر في ليلة القدر، لم تكُن جدّتي تتركني أرتدي « اللباس البلدي ». تقول لي: « أنتَ لست فقيهاً لترتدي جلابية ». تأثيرها عليّ أتلمّسه اليوم في لباسي وذوقي وأكلي وقراءاتي ومشاهداتي. حين أهالوا عليها التراب قبل 3 أشهر بكيت لوحدي مثلما كُنت طفلاً. كُنت مثل الميّت الحيّ وأنا أقف على عتبة باب القطار. هل أذهب إلى رؤيتها وحملها إلى المقبرة أم أن وجودي أمامها مُمدّدة سيُضاعف من ألمي وانهياري. إنّ الرحيل ألمٌ موجع، يجعل المرء يرنو إلى الموت أكثر من الحياة. خاصّة حين يتعلّق الأمر بامرأة تعلمت منها كلّ شيء ودأبت على اخبارها بكلّ شيء. كيف أعود اليوم إلى ذلك البيت الذي تعلمت فيه معنى الحبّ؟ كيف يُمكن أنْ يكون المرء قوياً وهو يطوف بعتبة ذلك البيت القديم؟ من أين نستمدّ القوّة لمواصلة حياتنا، بعيداً عن من نُحبّ؟ هل يسمعنا الموتى حين نتحدّث عنهم؟ هل حقاً سنلتقي يوماً؟
إنّ الحداثة ليست فكراً ولا مرجعاً دينياً أو إيديولوجيا نعود إليه لتأكيد الانتماء إليها. وإنّما هي نمطٌ في العيش وأسلوب حياةٍ نختاره شكلاً وواقعاً ووجوداً. شجعتني جدّتي وأنا صغير على قراءة الكتب التي تُحرّر المرء وعلى ارتداء الملابس المعاصرة واختيار العطور ومشاهدة الأفلام الأجنبية وعلى الرقص والحلم وعشق الممارسات الفنية بمختلف أشكالها وأنواعها. جدّتي كانت المدخل الحقيقي بالنسبة لي إلى الحداثة بكامل وعيها ونضجها، قبل أنْ أعرف معنى الحداثة من الناحية الفكريّة.