لا تعنينا أطوار المقابلة الكروية التي خرجت بالتعادل، بما جعل الجماهير مشدوهة أمام تكرار نتيجة مقابلات الديربي، ولكنْ دهشتي حقاً تنطلق من سؤال شخصي مُؤلم: هل نحن اليوم كمَغاربة في حاجة ماسّة أنْ نشغل أنفسنا بضربة جزاء، أمام ما نعيشه بؤسٍ وكوارث وفضائح؟ هل وصل مجتمعنا إلى درجة مُتقدّمة من الوعي، تجعلنا نعبر صوب الحداثة والتحديث، حتّى تُصبح كرّة القدم كلّ ما يشغلنا؟ لستُ من عشّاق مُشاهدة كرم القدم الوطنية، لكنّي أحبّ في طفولتي الجري لاهتاً وراء ذلك الفراغ المُستدير الذي نُسمّيه الكرّة وأجعل جسدي يعيش حلماً ليس حلمي. لكنْ في حياتي اليوميّة لا أتحدّث كثيراً عن كرة القدم، بل عن سياساتها وإنتاجها، وما يُمكن أنْ تُقدّمه للشباب في حياتهم عن طريق اللعب والاحتراف، لا على مُستوى مُشاهدةٍ مُفرطةٍ تُعلّم الكسل والانبطاح.
حين شاهدت شباب المنتخب الوطني في كأس العالم بقطر، أحسست وكأنّي أستعيد بعضاً من فرحي الطفولي والذي خيّم على جسدي طيلة شهر، تمنيت لو أنّ كلّ أبناء بلدي يُحقّقون تلك أحلامهم المُعطّلة التي رافقت مُخيّلتي ويُغادرون البلد بحثاً عن مُستقبلٍ أفضلٍ لأحلامهم، حتّى يصبحون من مشاهير العالم في كرة القدم كما يحدث الآن لعناصر الفريق الوطني. إنّ الحلم جميلٌ، لكنّه عسير. ليس تهريج ضربة جزاء سوى غابة كثيفة تُغطّي الواقع العاري وترخي بظلالها الداكنة على الراهن المغربي وتُحوّله كذباً إلى جنّة، بل وتدفع بالأجيال الجديدة إلى تذويب الوقت في كأس شاي وشربه. إنّ الواقع مريرٌ لدرجةٍ لا نقوى فيها على حمل أجسادنا. الحياة؟ نعم جميلةٌ هنا في المغرب، لكنْ كيف نعيش هنا حتّى نذبل وكلّ شيءٍ يُبعدك عن مظاهر عيشِ حقيقية وآمنة؟
يشهد العالم اليوم، تحوّلاً سياسياً واجتماعياً وثقافياً وتقنياً، يفرض على المغرب الدخول في سراديب هذا التحوّل، وذلك من خلال قطعٍ نهائي مع أفكار ماضويّة، ماتزال تُعمر في بنية تفكير المؤسّسات التقليدية وجامعاتها ومراكزها ومنظوماتها السياسيّة، أمام واقع معاصر يحبل بالتغيّرات. هل يبدو البلد الآن قادراً بمجتمع ضربة جزاء على مواجهة كلّ ما يُمكن أنْ يُصيب وطننا من مشاكل وجفاف وأمراش؟ أعتقد أنّنا في حاجةٍ اليومٍ إلى توجيه نقدٍ لاذع وجذري إلى كلّ الأفكار التي أوصلتنا إلى هذه الحالة، التي أصبح فيها نصف المغاربة يتحدّثون عن ضربةٍ جزاء كان من المُمكن أن تحرز هدفاً في مرمى الخصم.
داخل هذا النفق المُظلم، يروم المثقف إلى توجيه النقد إلى الدولة، باعتبارها الجهاز الوحيد المسؤول عن هذا التشرذم والضياع الذي يعيشه الشباب، غير مُكترثين بمفهوم الأسرة وما لعبه من دورٍ حيويّ في تاريخ الشعوب. إنّ الأسر تتحمّل مسؤولية ما وصل إليه المجتمع، فهي لم تعُد مسؤولة عن أبنائها ولا تتحمّل جميع مسؤولياتها التربوية والنفسية في ضمان تربيةٍ أصيلة. كما أنّ المدرسة ومعها الدولة فشلا في إنتاج مجتمعٍ حداثي لا ينفصل عن أصوله وتاريخه وذاكرته، لكنّه يتطلّع في آنٍ واحدٍ صوب نمط حياةٍ معاصرة على مُستوى تعامله مع الآليات والأدوات التي يُتيحها نمط الحياة اليوم.
بل إنّ انهيار المنظومة التعليمية قد تسبّب في شرخٍ كبيرٍ داخل الأوساط الاجتماعية لدرجةٍ أصبحت فئة الشباب ترى في مشاهدة كرة القدم (وليس لعبها) ملاذاً آمناً يحتمون به من أعاصير الواقع. مقارنة مع ما كانت تعرفه المدرسة العمومية خلال السبعينيات والثمانينيات من ثورةٍ ثقافيّة تجعل الشباب عمادها، وأنتجت لنا عشرات التجارب على مُستوى الأدب والفكر والموسيقى والغناء والرقص، طالما اعتبر السبعينيات المخاض الحقيقي لميلاد الحداثة في المغرب. جيلٌ ظلّ رغم القهر والجوع يُؤمن بقوّة الشباب، باعتبارهم قوّة ناعمة تتبرعم داخل أماكن وفضاءاتٍ منسيّة لتصير يوماً جبلاً شامخاً في المناطق اليباب.
ألم يتبقّى للأجيال الجديدة اليوم ما تفتخر به، سوى لكونها تنتمي إلى بعض الفرق الرياضية الترفيهية وتجمّعات الألتراس؟