منذ منتصف الستينيات، استوعب الفنانون المغاربة، أنّه يستحيل بلورة حداثةٍ فنّية، إذا لم تنطلق من خصوصياتٍ محلّية تنأى بنفسها عن الغرب. فقد وجدت اللوحة نفسها في وضعية صعبة، بين الخروج من شرنقة الشكل الغربي والاعتماد على مصادر إلهام عربيّة تنهل من التراث العربي والحرف التقليدية، ما جعل أغلب الأعمال الفنّية تنطبع بنفسٍ تراثي يتهجى أصول الحداثة. رغم أنّ الحداثة نفسها، لم تكُن هي ما يشغل هؤلاء الفنانين، بل البحث عن شكل تعبيري جديد، يبدأ من سند اللوحة وينتهي بالآفق التخييلية وأبعادها الجماليّة. لقد بدأ الاهتمام مُبكّراً بالحداثة، لا كبراديغم فكري، وإنّما كطريقة إجرائيةٍ تستعى إلى البحث عن منافذ أخرى للتعبير.
من ثمّ، فإنّ استعارة مُتخيّل اللوحة الغربيّة عن طريق السند والشكل والموضوع والمواد، لا يقود التجربة التشكيليّة إلى التخلّص من ربقة الاستعمار والتبعية العمياء وبقايا المدّ الاستشراقي داخل اللوحة، بل يجعلها أسيرة هذه المنظومة الغربيّة بكل ثقافتها وحمولتها. وبعدما أسيل الكثير من المداد على صفحات مجلّة "أنفاس" التي كان يُديرها الشاعر عبد اللطيف اللعبي، بدأت ملامح التجديد تطال اللوحة المغربيّة وتقوى معها الشوق إلى الرهان على حداثةٍ تشكيليّة تستمدّ جذورها من الحضارة العربيّة الإسلامية. والحقيقة أنّه لولا بعض المجلاّت الأدبيّة التي رفعت من سقف المناقشة الفنّية داخل صفحاتها، ما كانت سيتمّ الحديث عن هذه المرحلة الهامّة التي ابتكرت شكلاً تعبيرياً جديداً مُتحرّراً من تراث الآخر الغربي.
سافر التشكيليون المغاربة في تخوم الحضارة العربيّة الإسلامية ونفذوا إلى جوهرها الجمالي، فقاموا باستلهام تراثها وإعادة تنصيبه على جداريات اللوحة المسندية. فقد جاء هذا التفكير بعد الصمت الذي خيّم على التجربة التشكيليّة وجعلها تُفكّر في كونها تجترّ نفسها عبر الشكل الغربي وتعمل بطريقة لا واعية على محاكاته وحفظ ديمومته على جسد اللوحة. في حين أنّ السياق التاريخي كان يفرض على الفنّان الدخول في معترك النقاش القائم بين الأصالة والمعاصرة، التقليد والحداثة. ما يُفسّر السرّ وراء انجذابهم صوب التراث الإسلامي من خلال المواد والأقواس والزخارف والخطوط والأشكال والتجريد، وهي عناصرٌ جماليّة حاضرة بقوّة في عمق الفنّ الإسلامي بمُختلف أنواعه وألوانه. فقد قام بلكاهية بالثورة على سند اللوحة من خلال أعمالٍ تنتقل من أسناد ورقية إلى أخرى نحاسية فقام بتطويعها وتصميمها على جسد اللوحة.
وإلى جانب الألوان المعروفة ركّز بلكاهية على مواد محلية مثل التراث والحنّاء وقام بوضع مجموعة من الأشكال التي اتخذت في غالبيتها الدائرة والسهم كعلاماتٍ بصريّة مُستمدّة من الثقافة الأمازيغية المغربيّة التي تعطي للعمل الفنّي بُعداً صوفياً يتماشى في قناعاته العملية وطرقه المنهجية وملامحه الجماليّة مع الحضارة العربيّة الإسلامية. خلافاً للفنّان محمّد الملحي، الذي عمل على استلهام دقيق للأشكال الهندسية التي عمل على توليفها على شكل مويجات تتلاقى في تشكّلها الفنّي مع خزّان طفولته بمدينة أصيلة.
غير أنّ هذا اللجوء إلى الرمز والعلامة لم يكُن بريئاً، بقدر ما يُعدّ في الأدبيات الفنّية بمثابة صمتٍ، بحكم ما كان يعرفه المجتمع من قهر اجتماعي وإفراط في استخدام السُلطة وارتفاع منسوب المنع داخل مجالات الفنّ والإبداع والابتكار. والحقيقة أنّ هذا التفسير السياسي يبقى عاملاً مُهمّا في فهم خصوصية هذه التيار الفنّي الذي حاول المزج بين الأصالة والمعاصرة. فالرهان كان يدور في أساسه حول "الذات" المسلوبة والسعي إلى معرفة هويّة هذه الذات التي بدت منذ المرحلة الاستعمارية أسيرة للثقافة الغربيّة وفنونها.