لم أستسغ يوماً، عبارة بعض الأصدقاء الأدباء، في كون الشاعر عبد الله راجع، كان سبباً في شهرة مدينة الفقيه بن صالح خلال منتصف سبعينيات القرن الـ 20، انطلاقاً ممّا كتبه من نصوصٍ شعريّة عنها لحظة تعيينه أستاذاً بثانوية الكندي التأهيلية. كما أنّي قد رفضت دوماً عبارة أنّ الكُتّاب الجدد (الشباب وغيرهم) قد خرجوا من جلباب عبد الله راجع. والحقّ أنّ كلاماً كهذا، لا ينمّ فقد عن هشاشة السؤال الثقافي، بقدر ما ينمّ أيضاً عن عطبٍ كبيرٍ في استيعاب مفهوم الكتابة وطبيعتها التحرّرية في قتل الآباء وتكسير كلّ الحواجز الفكريّة والسياجات الإيديولوجية، التي تقف عائقاً، أمام تقدّم الفكر وتجعله فكراً مُتشنّجاً غير قادرٍ على استنبات عالمٍ ثقافي موازي للحياة الواقعية.
لهذا فإنّ الرأيّ الصائب، أنّ المَدينة هي من ساهمت في شهرة وذيوع عبد الله راجع في كونه من كبار الشعراء المغاربة من جيل السبعينيات، الذين ينبغي الانتباه إلى نصوصهم الشعريّة النوعية بسبب قُدرتها على مُلامسة الجُرح الإنساني في علاقته بالواقع اليوميّ. لقد ألهمت الفقيه بن صالح، بكلّ تفاصيلها ونتوءاتها عبد الله راجع خلال إقامته المَديدة ومعاينته اللصيقة بحياتها اليوميّة داخل المقاهي والحدائق والأسواق والأعراس، لدرجةٍ تبدو كتابات الشاعر عن المَدينة وكأنّها تشريحٌ دقيقٌ لها، بحكم ما عاينه من تخلّف وركود داخل يومياتها التي ارتأى أنْ يُحوّلها إلى صُوَرٍ شعريّة تسرق الأنفاس وتطبع فيزيونومية المَدينة في مُتخيّل الناس ووجدانهم.
لا يعنينا هنا صاحب "الهجرة إلى المدن السفلى" إلاّ في علاقته بمدينةٍ طالما كان يحتذى بها داخل الجهة. بل ساهمت مثل باقي الهَوامش الصغيرة في خلق مشروعٍ ثقافي ستختفي ملامحه ابتداء من التسعينيات بسبب تفاهةٍ قاتمةٍ اكتسحت كلّ الأخضر واليابس داخل المَشهد الثقافي. وإذا كان السؤال الثقافي داخل المَدينة مُغيّباً، إلاّ من بعض الاجتهادات الصغيرة لبعض الجمعيات التي يُدريها شباب المَدينة، فلأنّ الجهات الوصية على تنمية المَدينة التي تولي أهميّة كبيرة إلى الجانبين الثقافي والفنّي، على اعتبار أنّ الرأسمال الرمزي يدخل ضمن طرق وسياسات التهيئة الحضرية التي يقوم بها المجلس. والحق أنّ هذا التراجع تتحكّم فيه عواملٌ أخرى ذات علاقة مركزيّة بـ "المثقّف" الذي تراجع دوره العضوي في تنمية المَدينة وشؤونها، بعدما شهدت منذ السبعينيات اهتماماً ثقافياً، لا مثيل له، قام به أساتذة وأفراد من جمعيات المجتمع المدني وبعض أعضاء الأحزاب اليسارية، إذْ مازالت ملامح مجهوداتهم مُتبدّية داخل عناصر من الجيل الجديد، بسبب تأثيرهم والمكانة التي تنزّلوها عميقاً في وجدانهم، فجعلتهم يُعيدون تكرار نفس المجهود مع بعض التجارب والأفراد والمؤسّسات.
ورغم وجود الكثير من الكُتّاب والأدباء والفنّانين والمسرحيين داخل المَدينة، إلاّ إسهاماتهم في تنميتها يبقى ضعيفاً، لا لكونهم لا يستطيعون تدبير شأنها الثقافي، وإنّا لعدم وجود جمعية ثقافيّة حقيقية تستطيع جمع كلّ المثقّفين وتُوحّد كلمتهم وتُعيد مصالحتهم مع السؤال الثقافي داخل المَدينة، بحكم ما يتوفّرون عليه من قُدرةٍ على الكتابة الأدبيّة والانخراط الفعلي في اليوميّ الثقافيّ، عبر طرح أسئلة تتعلّق بالهامش، وكيفية إعادة تأهيله وبلورته كمشروعٍ ثقافي يقف في الجهة الأخرى من المركز.
فهذا الرهان يبقى بيد الجمعيات الثقافيّة للمَدينة، بوصفها المُختبرات الحقيقية لتنمية الإبداع وتنظيم الشؤون الثقافية بالشراكة مع جمعيات المجتمع المدني وأعضاء المجلس البلدي، من أجل إعادة النّظر في شؤون المدينة من الجانبين الثقافي والفنّي. فكيف يجوز لمدينة لعبت دوراً طلائعياً في تاريخ المغرب المعاصر أنْ تظلّ منسيّة ومُهمّشة، أمام ما تحبل به من أسماء ثقافيّة وازنة ومواهب فنّية مُميّزة، تُؤكّد بين الفينة والأخرى داخل عددٍ من الجوائز والمهرجانات، عن مدى قوّتها في الفوز بجوائز أدبيّة وفنّية، بما يجعلها دوماً تخلق الحدث داخل الجهة وفي المغرب ككّل.