ثمّة أمرٌ رهيب يحدث اليوم داخل الفكر الفرنسيّ المعاصر. فكلّ مرّة تُؤكّد الجامعات الفرنسيّة ومُختبراتها العلمية بكافّة قنواتها الرسمية والخاصّة، عن جديتها في مسائل تتعلقّ بالفن في علاقته بالفكر. في وقتٍ تزداد فيه أهمية كلّ ما هو بصريّ، انطلاقاً ممّا يطرحه الواقع من صُوَر وتحوّلات. إذْ لم تعُد هذه الأخيرة في حاجةٍ ماسّة إلى الفكر، حتّى يُساهم في ذيوعها وانتشارها، بقدر ما غدا الفكر نفسه في حاجة إليها، حتّى يجترح لنفسه مساراً جديداً، بحكم ما تُزوّده من معرفةٍ دقيقة في علاقته ببعض قضايا وإشكالات الواقع. إنّها (الصورة) تُجدّده وتجعله فكراً حداثياً ينتمي إلى الزمن المعاصر، بدل الجري صوب معرفةٍ ماضويّة ذات صلة بإشكالات ومفاهيم لا علاقة لها بالواقع الآن.
فالمختبرات الغربية تبقى مفتوحة دوما على نوعٍ من "التجريب" المعرفي الذي يجعلها تعيش زمنها، فهي دائمة التجديد والبحث عن وسائط بصريّة ووثائق تاريخيّة وأرشيفات. رغم أنّ الصورة أصبحت تفرض سُلطة كبيرة على المفكر/ المؤرخ في مُعاينة موضوعاتٍ ذات صلة بمدارات الراهن. لهذا تبدو المختبرات الغربيّة مُستعدّة لاستقبال مُختلف أنماط الفكر المعاصر، بما يتماشى مع تقاليدها الفكريّة المُؤسّسة على فكر النقد والاختلاف. إنّ ما حقّقته بعض مؤسّسات النشر في قيامها بنشر مؤلفات تتعلّق بفكر الصورة لكلّ من ريجيس دوبري وجاك أومون وجيل دولوز وموريس ميرلوبونتي وناتالي إينيك ومارك فيرو وغيرهم، يتجاوز بسنواتٍ ضوئية راهن الثقافة العربيّة. وحين ينتهي فيه الفكر الغربي من الاشتغال على مفهوم أو نظرية، تكون الثقافة العربيّة تعيشهما كـ "موضة"، حيث الكلّ يدخل في سجال عقيم غالباً ما يقتصر على الشرح والإسقاط المعرفي على بعض الظواهر التي يشهدها الحقل المعرفي.
ورغم التحوّلات المعرفية التي شهدها هذا الفكر، لا يبدو اليوم قادراً على تأصيل مفهوم الصورة، التي مازالت بعيدة عن مجاله التداولي داخل الجامعة. إذْ يستحيل بلورة فكرٍ بصريّ والمختبرات تُروّج لنظرياتٍ بائدة، لا أحد يستخدمها ويُؤمن بها، وما يُمكن أنْ تفتحه للحقل الفكري من أراضٍ خصبة. وبالتالي، فإنّ بعض المسائل والقضايا المُرتبطة بـ "الصورة" بمُختلف تمثّلاتها التشكيلية والسينمائية والفوتوغرافية، لا يكاد الباحث يعثر على أيّ مُعطياتٍ تسعفه على التفكير. فحتّى التراكم الأولي لم يتحقّق بعد، لذلك يستحيل صياغة فكر حول الصورة والكتابات تدور في مُجملها حول معارض وندوات ومراجعات في كُتبٍ. فكيف يُمكن بلورة فكرٍ بصريّ، حين تجد مفكّراً ومُؤرّخاً في حجم عبد الله العروي يُوجّه نقداً لما سمّاه بمسألة "الفولكلور" عاملاً على تهميش مُختلف التعبيرات الرمزيّة المُرتبطة بالثقافة الشعبية، في وقتٍ يعتبر أنّ من يكتب في الأنثروبولوجيا وكأنّه يكتب خارج مدارات التاريخ. ولا شكّ أنّ مثل هذه الأفكار التي تُراهن فقط على مفهوم "المركز" قد لعبت دوراً سيئاً في تاريخ هذا الفكر، وجعلت كتاباته تدور في مُجملها حول السُلطة والسلفية والشرعية وغيرها من المسائل التاريخيّة المُتعلّقة بالحركة الوطنية والمقاومة المسلحة.
هل المسلسلات التلفزيونية المغربيّة تُفكّر؟ قطعاً لا. لأنّنا لم نعمل داخل ثقافتنا العربيّة على خلق بيئةٍ ثقافية قادرة على تأصيل نوعٍ من الفكر البصريّ، حيث يغدو المُخرج مُفكّراً قادراً على إنتاج مُختلف الصُوَر التي تُضاهي في زخمها مفهوم الواقع وما يعرفه من تصدّعات. لا يعثر المُشاهد داخل المسلسلات المغربيّة على دراما فكريّة تدعو إلى التفكير والتساؤل، بما تتضمنه من صُوَر.
ذلك إنّ ثقافة التهريج تظلّ حاضرة بقوّة وتُسمّي الأشياء باسمها. لم يصل المخرج التلفزيوني في المغرب إلى مرتبة يُصبح فيها يُفكّر بالصُوَر، مادام أنّ مُجمل نتاجه البصريّ مُوجّهاً صوب الترفيه والاستهلاك. فالمُشاهد هو الآخر غير قادرٍ على التفاعل مع هذا النّمط الفنّي من المسلسلات، لكونه يفتقر إلى شروطٍ معرفية وعناصر جماليّة تجعله مُشاركاً في هذا السفر الفكريّ. فالبنية البصريّة مُتردّية وأغلب مُسلسلاتها هشة تفتقر إلى مشروعٍ بصري يخدم أو ينطلق من الاجتماع المغربي. فلا غرابة أنْ تبدو هذه المسلسلات مُكرّرة ومألوفة تُشبه مُسلسلات الاستوديوهات والصالونات، حيث لا طعم ولا رائحة لها.
هذا باستثناء مَشاهد الضحك والهزل والاقتصار على عنصر التشويق الذي يدفع المخرج إلى عملية توليدٍ للقصص والحكايات، فيضطر بطريقةٍ تنميطية تجارية إلى تمديد حلقات المسلسل، بدون أيّ وعيّ مُسبق أصلا بعلاقة الفكر بالواقع، وما إذا كان مُسلسله حقاً قادراً على طرح أسئلةٍ فكريّة تتّصل بالذاكرة والتاريخ والفضاء والجسد وغيرها.
أمّا على مستوى الكتابة، فإنّ أغلب الأقلام العربيّة، حين تُريد أنْ تتصدّى لعلاقة المسلسلات أو السينما ككّل بالفكر، فتعمد في الغالب إلى الاستناد على مسلسلات فرنسيّة وأميركية. لكونها تعرف مُسبقاً أنّ أغلب الإنتاج التلفزي بالعالم العربي يبقى ضعيفاً فكرياً لكونه منطلقاته تظلّ مًتصدّعة وتفتقر إلى أرضية خصبة للنقاش والسجال بين المخرجين والنقاد والمنتجين وسواهم من العاملين داخل الحقل البصري، فكراً وإبداعاً.