عملت المطربة الجزائرية سعاد ماسي منذ نهاية التسعينيات على تجديد الأغنية العربيّة المعاصرة وتغذية مُتخيّلها، بحكم الإمكانات الجماليّة الهائلة التي تحبل بها المغنّية، سواء على مُستوى تأليف وأداء أغانيها أو عن طريق الانفتاح على موسيقيين أجانب، يعطون لأغانيها شحنة إضافية ويجترحون لها أفقاً غنائياً مُغايراً بالنّظر إلى طبيعة المشهد الغنائي العربيّ. وقد عُرفت ماسي في كونها أكثر المغنيات تجريباً للموسيقي الغربيّة باستخدامها قوالب موسيقيّة جد مُتنوّعة، لا ترهنها بفكرة الانتماء إلى الوطن والحفاظ على الموروث الغنائي، ولكنّها تستمرّ من ألبومٍ إلى آخر، عبر اللجوء إلى عنصر التجريب وخوض مُغامراتٍ موسيقيّة مُذهلة، كما هو الحال مع عدد من الشعراء العرب القدامى أصحاب المُعلّقات الذين تعاملت مع نصوصهم الشعريّة وإعادة الاشتغال عليها موسيقياً في ألبومها "المتكلمون".
لذلك فإنّ مكانة صاحبة "دار جدي" تبدو بارزة داخل المشهد الغنائي اليوم، لكونها تُعتبر أحد أهمّ الأصوات الغنائية الجديدة، التي تميّزت في مشروعها الغنائي منذ التسعينيات، وخلقت مساراً موسيقياً مُغايراً بالنّظر إلى تجارب غنائية مُتجذّرة في الأغنية العربيّة، لكونها لم تعمل على تقديم جديدٍ يُعوّل عليه موسيقياً، فظلّت أغانيها وألبوماتها مجرّد محاكاة لبعض نماذج الأغنية التقليدية. ما فعلته سعاد ماسي أنّها تجاوزت حدود الموسيقى العربيّة وفتحت النصّ على تخوم أراضٍ جديدة، ما جعلها أكثر المغنّيات العربيّات طلباً من الجماهير العريضة بالعالم العربيّ. وقد ساعد استقرار سعاد ماسي في فرنسا من الانفتاح على مُحيطها الغنائي المُتنوّع والمفتوح دوماً على تجريبٍ موسيقيّ مُنبثق من الذات ومآزقها.
في ألبومها الغنائي العاشر "سيكوانا" مزجت سعاد ماسي فيه بين الروك والكانتري وبنفسٍ شاعريّ كتبت 9 أغانٍ من الألبوم الذي يتكوّن من 11 أغنية مزجت فيها سعاد ماسي، بين أنماطٍ موسيقيّة غربيّة، تزيد الأغنية جمالاً وانتماءً إلى الزمن المعاصر، خاصّة وأنّ ألبومها هذا قد تعاونت فيه مع المُنتج الموسيقيّ جاستن آدامز صاحب أشهر المقطوعات الموسيقية، والذي سبق له التعامل مع الكثير من الفنانين العرب. وبالتالي، فإنّ عزفه بدا واضحاً داخل ألبوم سعاد ماسي الجديد في تطويع شعريّة الكلمة صوتاً وفق أنماطٍ موسيقيّة مُتعدّدة.
ليس جاستن آدامز مجرّد موسيقيّ عاديّ، ولكنّ براعته على مُستوى الأداء، تُتيح للألبوم الجديد شهرة كبيرة داخل المُستمع الأجنبي، باعتباره يُؤسّس خطاً موسيقياً مُتناغماً وغير موازٍ للأغنية. إذْ تبدو موسيقى آدمز وكأنّها ثائرة ولا تمشي بشكلٍ مُتوازٍ مع الكلمات، لكونه لا يُعيد محاكاة الكلمة موسيقياً، ولكنّها تثور وتحلم وتُدهش بقُدرتها على تكسير وحدة النصّ وخلق تواشجاتٍ جماليّة بين النصّ والآلة، لكنْ سرعان ما يلتقيان ويلتحمان ككتلةٍ فنّية واحدةٍ. إنّ ما ينبغي فهمه في هذا السياق، أنّ الموسيقى لا تُكمّل دوماً خطّ الحكي، بل تُمارس حبّها وشغبها في النأي بنفسها عن جماليّات النصّ. وهذا الأمر، لا يحدث إلاّ داخل الأغاني المُذهلة التي تخلق الدهشة في أجساد الناس، كما هو الحال مع أغاني سعاد ماسي بنُضجها وفتنتها وسحرها لكلّ شخصٍ يسمعها.
هذا وقد حصلت صاحبة ألبوم "أمنية" على العديد من الجوائز الدولية، تبقى أهمّها جائزة أديسون الهولندية كأفضل فنّانة، لذلك اعتبرت ماسي أوّل فنّانة تحصد هذه الجائزة على نفس الألبوم المذكور. وتُعتبر أغنيتها الجديدة "أرسم لي بلاد"(2022) الباكورة الغنائية الأولى لهذا الألبوم، الذي جاء فيديو كليبه بسيطاً وغنياً، حيث صوّر سعاد ماسي داخل غاليري، وهي تنظر صوب لوحات تشكيليّة، فتتغيّر ألوانها بطريقةٍ تلقائية من صورةٍ إلى أخرى. أمّا فكرة الألبوم، فتُواصل صاحبة "غير أنت" المُراهنة على الالتزام بقضايا الحبّ ومعاناة الناس والظلم والقهر وغياب العدالة الاجتماعية. وهي موضوعات غدت مألوفة في تفكيرها وتطبع الكثير من أغانيها.
لا يُمكن النّظر إلى موسيقى سعاد ماسي بمنأى عن التفكير في مفهوم الحداثة ومَباهجها، لكونها تأخذنا في جولةٍ غنائيةٍ مُتفرّدة، حيث براعة الكتابة وجماليّات الإيقاع الموسيقي يُقدّمان معاً أغنية أكثر تعلّقاً بـ "المعاصرة" شكلاً وقالباً ومُتخيّلاً. وتتوزّع أنماط صُوَر الفيديوكليب على إيقاعات فنّية مُختلفة وفق أسلوبٍ تشكيليّ مُميّز يُحاكي في لوحاته عمق الكلمات وهسيسها. فهذا الملمح البصريّ يُجدّد الفيديو كليب ويمنحه صورة مُغايرة، حيث يغدو عملاً فنياً مُؤسّساً له خصائصه ومساراته وجماليّاته.