فكانت كلّ دراساته بمثابة "فتحٍ" داخل الثقافة المغربيّة المعاصرة من خلال قدرته على التقاط بعض الموضوعات المنسيّة داخل الثقافة المغربيّة، وجعلها تحتل مكانة قائمة داخل المركز. هذا الأمر، جعل دوماً من يحيى بن الوليد، جريئاً في القبض عن هذا اللامفكّر فيه داخل مشاريع هؤلاء المفكرين العرب، كما هو الشأن بخصوص كتابه الخامس عشر،"الفكر... تأويلاً وتأويلاً مضاداً: دراسة في التنوير وانتكاسة التنوير عند العرب"(دار خطوط) بحيث عَمِلَ من خلاله على الحفر في مشاريع نقدية وفكرية داخل الثقافة العربيّة، الحديثة منها والمعاصرة، مع كل من جابر عصفور وطه حسين ونصر حامد أبو زيد ومساءلة هذه المشاريع وتفكيكها برؤية نقدية، تنطلق من الهيرمينوطيقا لتلتقي بأسئلة "النقد الثقافي" و"تحليل الخطاب"، الذي ميّز دراسات يحيى بن الوليد النقدية وجعلها مُستساغة ومُتداولة وذلك لأن الرجل لم يكتفي يوماً بالحدود، التي يرسمها النقد العربي في صيغته الحديثة، بحيث أنه(النقد) ظلّ قاصراً على تفسير بعض التجارب النقدية العربيّة،التي حققت حداثة مُبكرة على مسوى المنهج مثل طه حسين أو محمد مندور، بحكم طبيعة كتابتهما الاستشرافية، التي تفرض نوعاً آخر من المُعاينة والمساءلة والنقد الحادّ وقدرة النّاقد على استلهام معارف العلوم الإنسانية والاجتماعية لمقاربة النصّ النقدي عند هؤلاء، وهذا الأمر، يتأتى بقوّة داخل كتابات بن الوليد،سواء في مُنطلقاته النقدية مع مشروع عبد الله العروي أو حتى في كتابه الأخير حول التّنوير، الذي لم يتوانى فيه على التصريح بمنهجه ومقاربته ضمن النقد الثقافي ودراسات ما بعد الاستعمار،للعديد من القضايا الشائكة داخل الثقافة العربيّة الحديثة.
يتخذ يحيى بن الوليد في كتابه هذا من التأويل عملية فكرية لاختراق بنية العقل العربي وعتبات التراث النقدي وملامحه عند جابر عصفور، من خلال تتبُعٍ حصيفٍ لكتاباته ودراساته في موضوعات مختلفة ومدى تأثيرها في بنية النقد الحديث داخل مصر وخارجها، نظراً إلى السجال الكبير، الذي خلقته كتابات جابر عصفور وقُدرتها على التقاطع والتلاقي مع كتابات مفكرين عرب من قبيل: طه حسين وسلامة موسى ونصر حامد أبو زيد في العديد من القضايا المركزية المُتصلة بمُقارباتهما لموضوعة التّنوير في التراث العربي. وبالرغم من أنّ تاريخ موضوع التّنوير يدخل بالأساس من حيث التدوال ضمن حقل الدراسات التاريخية والفلسفية، كما بلورتها العديد من الكتابات العربيّة.
إلاّ أنّ بن الوليد، يرفض أنْ يسير على هذا المنوال من حيث منطلقاته الأكاديمية، فهو يقتحم المجال بعُدة مفاهيمية ومن زاوية الدراسات الأدبية وأسئلة النقد الثقافي، مُتسلحاً وعارفاً بالمناهج والقضايا التي يُعالجها، رغم حرصه الكبير على الاستناد إلى هذه الأسس الفكرية والتاريخية التي طبعت المفهوم، فهو يُوظفها توظيفاً جديداً ووفق سياقات معرفية غير مألوفة، لمقاربة النصّ النقدي العربي لمفهوم "التّنوير" وتجلياته داخل الثقافة العربيّة الحديثة،ما جعل الكتاب مُكتملاً من حيث نظرة المُعالجة وطبيعة البيبليوغرافيا المُوظفة وتنوّعها وتبايُنها وتشعُبها في بناء مفهوم جديد للتّنوير، يقوم على اختلاق تأويل مضادّ لهذه الكتابات، بغية إفراز نصوص جديدة وتأيلات مضادّة تختبر التراث العربي وتجعله أمام امتحان ذاته أولاً، قبل شبح المناهج المعرفية الجديدة، ليس لتسويغه فقط، وإنما ل"تأزيمه" على حدّ تعبير بارث ونقده وتشريحه على ضوء هذه المناهج الجديدة ومعرفة مدى قدرته على التباث أمام تحوّلات شتى طاولت التراث النقدي العربي.
كل هذا جعل من كتابته مُغايرة لطبيعة الكتابات الفكرية المتراكمة منذ سنوات في موضوع "التّنوير" لأنه حَرِصَ منذ البداية، أنْ يجعل من مفهوم "التأويل" قاعدة فكرية، تضرب بقوة في طبقات النصوص النقدية، لفهم طبيعة ميكانيزماتها الداخلية وتقاطعها داخل نصوص نقدية أخرى، إما بحكم تشابه السياقين السياسي والاجتماعي اللذين كتبا فيه، أو بسبب تشابه المرجعيات والأسس التي نهلوا منها. بهذا المعنى يغدو مفهوم التأويل عند يحيى بن الوليد، ليس مجرد عملية منهجية أو أداة إجرائية لخلق تحاورٍ ثقافيّ بين الذات وتراث الآخر، الذي نُقيم فيه ويُقيم فينا وفهم تحوّلاته وخصوصياته المعرفية، بل هو حركة فكرية خلاقة ومُغايرة، تجعل من النصّ النقدي، يتخذ أبعاداً معرفية مُتشعبة ترتبط بالسياقين السياسي والاجتماعي الذي بزغت فيه.
من ثم لا يُصبح التأويل هنا أحادياً، بل مضاداً لإنتاج نصوص جديدة, يقول المؤلف "إنّ مدار بحثنا هو التأوليل ذاته لا كموضوع في التراث أو كموضوع دراسة بصفة عامة. إنّما التأويل باعتباره الفكر ذاته في ثابته ومتحوله. التأويل والتأويل المضادّ. التأويل الذي يسعى إلى إنتاج، والتأويل الذي يصمم على اجتثاث هذه النصوص بواسطة معدة سلفاً باسم أيديولوجيا معينة". من هذا المُنطلق أضحى التأويل في كتابات بن الوليد، مُمارسة فكرية ولولبية، بحيث أنّ كلّ تأويلٍ جديدٍ، يجُبّ التأويل الذي الأول وغيرها من المُتتاليات التأويلية، التي لا تُفسد التراث العربي التّنويري وتجعله دائماً موضع شكٍ، بقدرما ما تمنحُه حياة جديدة داخل بنية التفكير العربي، لإعادة بناءه فرزه وبناءه من جديد.
خاصية أخيرة انفرد بها كتاب يحيى دون غيره، وهي قدرته على عدم التقوقع داخل النظريات الأدبية، التي عملت منذ مطالع القرن العشرين على إنتاج نصٍ نقديّ واحد، بطرق مُختلفة من المقاربة والتدريب الإنشائي، بسبب هشاشة الترسانة المفاهيمية والعُدة النظرية التاريخية والفلسفية، التي يفرضها موضوع التّنوير، كما بلورها كانط في الفكر الغربي، والتي تجعل من المفهوم،ينفلت من قبضة التحليلات الأدبية، ليجد نفسه داخل فضاء المعرفة الإنسانية والاجتماعية، التي تعمل على تجديد علاقة التراث التّنويري العريي بالعالم، وتجعله مُنفتحاً على تأويلاتٍ شتى، وهذا الأمر، هو ما تفرد به الباحث يحيى بن الوليد، ليس في كتابه الجديد فقط، وإنما في جلّ مؤلفاته السابقة، التي اقتحم من خلالها عوالم ظلّت في حكم الغرابة واللامفكّر فيه داخل البحث العلمي المغربي.