والتي جعلت المثقّف المغربي يدخل غمار التقليد ويُصبح وسيلة من وسائلها وقناة لتمرير الخطابات والايديولوجيات السطحية المُميتة، بعيداً عن أيّ فعل ثقافي وما يرتبط به من تجميل خلاّق لحياتنا. لم ينتم محمّد جليد إلى مؤسّسة باستثناء جريدة "أخبار اليوم" مكان عمله اليومي منذ سنوات. هناك حيث سيتعرّف القارئ المغربي بقوّة على اسم محمّد جليد، وهو يُعيد صياغة مدخل جديد للثقافة المغربيّة من خلال مقالات وتقارير وحوارات وترجمات ومراجعات آنية للشأن الأدبي والفكري.
والحقيقة إنّ ما ميّز كتابات جليد، هو حياده في ممارسة الفعل الثقافي، وجعل الصفحة الثقافية مختبراً للتفكير بين الأجيال على اختلاف مشاربهم الفكرية والأدبيّة، إذْ لم يكُن يُعلي من جيل على حساب آخر. فهو دائم البحث عن الجديد الأدبي، وسرعان ما يُطالعنا بمقالات عن أدباء يعيشون ضرباً من اللامُفكّر فيه داخل المغرب، من ثمّ، يعمل على إبرازهم إلى السطح والدفع بهم بقوّة صوب المشهد الثقافي للنقاش والنقد.
لكن إلى جانب الكتابة الصحافيّة، راكم محمّد جليد مشروعاً محترماً في الترجمة الأدبيّة والفكرية واختار لمساره دروباً وعرة وهو ينقل كبار المتون الغربية إلى اللّغة العربيّة إمّا عن طريق الفرنسيّة أو الإنجليزية مثل: "ترابيع القمر الخمسة"، "أريج الياسمين"، "نار شاحبة"، "بْنين"، "الخطاب الغربي حول الإسلام السياسي" وغيرها من الأعمال الأدبيّة والفكريّة التي أضحت اليوم مرجعاً داخل الثقافة العربيّة المعاصرة.
هنا الجزء الأولّ من الحوار:
1. محمّد جليد، أوّلاً، اشتغلت على مدار سنوات طويلة داخل الصحافة المغربيّة المكتوبة ككاتب ومُحرّر، وبرز اسمك أكثر داخل جريدة "أخبار اليوم" التي تمّ إغلاقها قبل أشهر، مع العلم أنّك حاصل على الدكتوراه في الأدب الإنجليزي. ما الذي لعبته الصحافة في حياتك العملية ككاتب ومترجم؟
لا بد من الإشارة إلى أنني اشتغلت، في البداية، مترجما في الصحافة المغربية، ولم أكن صحافيا تخرّج من معهد متخصص وتشرّب أصول المهنة في مؤسسات متخصصة. اقتصرت تجربتي الصحافية الأولى على ترجمة مقالات واستطلاعات وحوارات ونصوص متنوعة من الفرنسية والإنجليزية إلى العربية، إما بمبادرتي الشخصية أو باقتراح من إدارة التحرير أو بعض الزميلات والزملاء. بعد ذلك، أخذت أحرر متابعات وتقارير حول الشأن الثقافي، أو قراءات في كتب، وأجري حوارات مع أدباء ومفكرين. ومع مرور الوقت، تواءمت الترجمة والكتابة الصحافية، وتلازمتا إلى يومنا هذا.
أظن أن الصحافة، المكتوبة بصورة خاصة، هي المحك الحقيقي الذي يختبر القدرة على الكتابة، بل يهذّب موهبة الإبداع بوتيرة يومية. ينتهي بنا هذا البياض المتجدد كل صباح في الجرائد ليس فقط إلى مُعَاركة الكلمات وترويض المعاني، وإنما إلى صقل دُرْبة الكتابة وتمتين الصلة بها. فهي مثل الرياضة، إن لم تزاولْها يوميا، ترتخِ عضلات كلماتك، وتضعفْ قوة جملك، وينخفضْ نَفَس عبارتك. وما ينطبق على الكتابة الصحافية أو الإبداعية أو الفكرية يسري كذلك على الترجمة، لأنها كتابة لما نفهمه وندركه من نص كاتب آخر بلغتنا الأم. بل تكاد الترجمة تتطابق مع الصحافة. أليستا معا نقلاً في نهاية المطاف؟ فالصحافة نقل لواقع أو حدث في الجريدة أو الشاشة أو الإذاعة، والترجمة نقل لرأي الغير وفكره وإبداعه إلى لغتنا وثقافتنا.
2. كيف استطعت كل هذه السنوات ممارسة هذا التعدّد الأدبي الذي تنطوي عليه ذاتك، بين فعل الكتابة ثم الترجمة؟
لا أزعم، بصريح العبارة، أن ما كتبته أو ترجمته، حتى الآن، يعكس هذا التعدد الأدبي. لكني أؤمن فعلا أن مراكمة أعمال متعددة، ضمن أجناس مختلفة، هي طريق الكاتب إلى قراء مختلفين: قراء الأدب والفن، قراء الفكر، قراء العلوم، قراء الثقافات الأخرى، الخ. تنطوي الترجمة- من منطلق أنها كتابة أيضا- على الغاية ذاتها؛ أي على إتاحة الفرصة للاطلاع على الثقافات والآداب العالمية بالنسبة لأولئك القراء الذين لا يعرفون الإنجليزية أو الصينية أو السواحيلي أو الأوردو...
وجوابا على سؤالك، أستطيع القول إن ما تحقق حتى الآن في تجربتي، كتابة وترجمة، هو نتاج هذه الدربة التي تكرسها فينا الصحافة، دربة قوامها الانشغال الدائم بالكتابة واستثمار عامل الاهتمام اليومي بالثقافة وحسن استغلال الوقت. ستسألني بلا شك: "لكن كيف تزاوج بين الصحافة والترجمة؟" سأردّ- وإن كانت هذه الدربة التي تحدثت عنها تتضمن جزءا من الجواب- بالقول إن وقت الصحافة هو النهار، ووقت الترجمة هو الليل وأي وقت فارغ آخر مثل العطل ونهايات الأسبوع، ما لم يكن هناك، بالطبع، حدث قد يسلب وقت الترجمة ويمنحه للصحافة. لكن منجزهما هو، في نهاية المطاف، نتاج إرادة ذاتية ترى ضرورة أن يكون الصحافي المغربي، على غرار من سبقوه أو زملائه في العالم، منخرطا في الحركية الثقافية، بالبحث والإبداع والترجمة، لا أن يقتصر دوره على نقل الأخبار وتحليلها.
3. من المعلوم أنّ الصحافة كانت دوماً سنداً أدبياً للعديد من الكُتّاب والشعراء لتداول مواقفهم وآرائهم في موضوعات مُعيّنة. لكن ما الذي يُمكن أنْ تُضيفه الصحافة بالنسبة للمُترجم المغربي؟
هناك من يعرف الصحافة بأنها وساطة بين مرسلٍ ومتلقٍّ. وبصرف النظر عن الابتسار الذي يميز هذا التعريف، إلا أنه يعكس، إلى حد ما، طبيعة العلاقة القائمة بين الصحافة والترجمة. لقد اطلع كثير من القراء المغاربة على جوانب من صورتهم كما تعكسها التمثلات الغربية، إما في الصحافة أو في المؤلفات، عبر الترجمة أساسا.
فما تكتبه الصحافة الفرنسية والإسبانية والإنجليزية عن المغرب، بمختلف ظواهره السياسية والاجتماعية والثقافية، يُترجَم في غالبه، ويُنقَل إلى هؤلاء القراء عبر الجريدة أو المجلة، الخ. وقد ترجمتُ خلال السنوات القليلة الماضية العديد من المقالات والحوارات والنصوص المحررة أساسا بالفرنسية والإنجليزية التي تتناول الظواهر والتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية، خاصة ما يتصل منها بالإسلام السياسي والإرهاب وطبيعة السلطة السياسية.
فعلى سبيل المثال، خلقت بعض هذه الترجمات جدالا واسعا في مناسبات تزامنت مع قضية الرسوم المسيئة للرسول في فرنسا أو قضية حرق القرآن في أمريكا... من هنا، تتيح الصحافة للمترجم، لا أن ينقل فحسب ما يجري في العالم الخارجي إلى القارئ، وإنما أن يجعل أيضا هذا الأخير مواكبا ومطلعا على حركية العالم، ومتفاعلا مع قضاياها وإنتاجاتها، ومساهما فيما تنتجه من هجنة وتثاقف. لا تكون الصحافة إذاً مجرد مرآة تعكس صورة الذات، وإنما وسيطا ينقل- عبر الترجمة طبعا- الصورة التي يرسمها الآخر، في مخياله أو صحافته، عن هذه الذات.
4. تُعاني الصحافة المغربيّة المكتوبة منها والمرئية ارتباكا مهولا، يجعل من هذه الوسائط الإعلامية تقنية أكثر منها وسيلة للتعبير والسجال والنقد. كيف يفهم محمّد جليد طبيعة هذا التحوّل الذي شهدته الصحافة المغربيّة منذ السبعينيات، حيث كانت الملاحق ومكاتب التحرير تعجّ بالأدباء، مقارنة بالتقنيين الذي يستحوذون على كراسي الجرائد، بدون أيّ مجهود إعلامي يُذكر، باستثناء فئة قليلة هم في أساسهم كتّاب ونقّاد وأدباء؟
هناك عوامل عديدة، منها الأمية وضعف دور التعليم والقدرة الشرائية. لكني أظن، فضلا عن ذلك أن هذا الارتباك يُرَدُّ كذلك إلى عاملين مستجدين اثنين. يكمن أولهما في التوجه المركانتيلي الذي فرض نزعة استهلاكية جارفة أقرّت لغة الإشهار والإثارة محل لغة النقاش والتحليل والنقد؛ أي أنها باتت أكثر ميلا إلى مخاطبة الرغبات والنزوات والأهواء، الخ. أما العامل الثاني، فيتجلى في التكنولوجيا التي فرضت، هي الأخرى، وسائط جديدة تخلت عن المبادئ التي كرستها الصحافة التقليدية، وغلّبت منطق الجماهيرية والشعبوية، تماشيا مع إملاءات العامل الأول؛ أي النزعة الاستهلاكية.
هكذا، بتنا نلاحظ انتقالا من صحافة ساهمت في تأسيس التنوير وبناء الوعي وترسيخ العقلانية، وتلك كانت غاية كتاب وصحافيي السبعينيات، إلى صحافة لا تهتم سوى بالسوق والتجارة؛ أي بالعابر والزائل، بما يسميه عالم الاجتماع البولندي 'زيغمونت باومان' بـ"الثقافة السائلة". ومع ذلك، بمقدور المرء أن يفتخر ببعض المنابر التي ما تزال تحافظ على إصدار ملاحق ثقافية وتحاول قدر الإمكان التصدي لسيل التفاهة والابتذال الهادر.