أشرف الحساني يكتب: صفاء الروّاس.. اللوحة وأسئلة الحدود والاغتراب

أشرف الحساني

أشرف الحساني . DR

في 06/10/2022 على الساعة 18:00

تتميّز التجربة التشكيليّة عند الفنانة المغربيّة صفاء الروّاس، بقوّة مُتفرّدة في تكسير الأفق الفكري الذي طبع اللوحة الحديثة على مُستوى الشكل، من خلال اجتراح نافذة جديدة تنصهر فيها ثورة الشكل بزخم المواضيع الفنّية ومدى تجذّرها في الواقع.

تنتمي صفاء الروّاس إلى جيلٍ فنّي جديد، بدأ منذ نهاية تسعينيات القرن الـ 20 العمل على تجديد الحركة الفنّية المعاصرة، من خلال تجريب الأشكال الفنّية وتجريدها من رواسب التاريخ الفنّي، لا باعتباره تراكما فنّياً، يقود الفنان إلى تثمين تجربة اللوحة المسندية ومُتخيّلها، ولكنْ كأسلوبٍ تفكيكيّ جديدٍ يقوده صوب اكتشاف مُنعطفاتٍ جماليّة، لا يستطيع الفنّان المغامرة في تجريبها على سند اللوحة، مقارنة مع أشكال فنّية أخرى، تتجاوز ضيق اللوحة وعدم قُدرتها دائماً على تملّك ذائقة الفنّان الشعورية، حتّى يتحرّر من شوائب الذات ومآزقها. فتكون عملية المُجاوزة، أشبه بعبور إلى عوالم مُتخيّلة جديدة قادرة على تخييل الذات والاشتباك مع مفاهيم الواقع والذاكرة والتاريخ والهويّة.

ليست اللوحة عند صفاء الروّاس، مجرّد سندٍ فنّي تُبلور عليه أفكارها وأحلامها وهواجسها، ولكنّه مُختبرٌ للتفكير في مآزق وتصدّعات الذات الإنسانية في طابعها الوجودي، حيث الغلبة للتفكير على الحكي، إذْ لا تعمل في لوحاتها على رسم التاريخ وأمجاده أو حتّى إعادة محاكاة الطبيعة وأنفاسها، بقدر ما تشتبك بعنفٍ مع الواقع وتُحاول عبره كفنّانة تُنبّهنا إلى بعض قضاياه وإشكالاته. فالواقع عندها يحتلّ مكانة مركزيّة، لأنّه المُنطلق الأساس والدافع القويّ الذي منه تتبلور الأفكار، وهي تبني مسارها وتدرّجها على سطح العمل الفنّي.

في معرضها الجديد «A travers des étendues» بغاليري 21 بمدينة الدارالبيضاء، تُسافر بنا صفاء الروّاس، صوب ذاكرة الحجر الصحّي، حيث البياض يُلامس الجسد، لا من خلال استعادة ملامح كوفيد 19 أو حتّى فيزيونوميّة الصمت الذي ظلّ يُخيّم على الجسد الإنساني لأشهر طويلة. بل تعمل الفنّانة على طرح أسئلة الحدود والاغتراب داخل لوحاتٍ مُتنوّعة الحجم ومُتعدّدة الأفق الفنّي، لكنّها تلتقي على شكلٍ رسوماتٍ وخطوط للكارطوغرافية العالمية، فتعمل على تشذيرها وتقطيعها وتفتيتها أحياناً، لكنْ وفق إبرٍ وُضعت على جسد اللوحة، لا للدلالة على العُنف كما عودتنا الروّاس داخل بعض أعمالها، وإنّما كإبرٍ صغيرة مُذهّبة وأحياناً بيضاء كنوعٍ من الترميم الذي يجعل الحدود تلتصق فيما بينها وتُكوّن كارطوغرافية واحدةٍ مُكتملة، حيث السيادة الوطنية للوحدة. لكنْ على تخوم هذه الحدود المُتشظّية تُمطرها الروّاس بعشرات الأسئلة حول ماهي الحدود وطبيعتها والقلق الذي تُثيره في وجدان اللاجئ والعابر لهذه الحدود. وبما أنّها توقّفت ولم يعُد بإمكان المرء السفر والخروج واللقاء والعيش والحرّية، فإنّ المفهوم المقابل لجهة الحدود هو الاغتراب، باعتباره نتيجة حتمية على تحوّل الواقع. فإذا كان الأبيض يرمز إلى الموت، فإنّه في أعمالها يُصبح فراغاً وصمتاً.

على هذا الأساس، تتميّز لوحات الروّاس، بقُدرة كبيرة على اختراق واقعنا وإدراكاتنا بلوحاتٍ تُخاطب الجسد أكثر من العقل، وأعني الجسد الرمزيّ، بوصفه آلة لإنتاج الفكر نفسه. لكنّ المفهوم هنا، يتّصل بأنطولوجية الجسد ومدى قُدرته على إدراك الواقع، فصلابة الفكر وصرامته، لا تترك الفنّان أحياناً يُعبّر عن نفسه بقوّة، لكون اللوحة معطى حسّي قادر على إعادة تشكيل وعي الإنسان في علاقته بالذاكرة والواقع، مُعتمدة بشكلٍ أقوى على إدراكات الجسد في تخييل الواقع. أمّا على مُستوى أفق العمل الفنيّ، فهي ترنو دائماً إلى إدهاشنا ودعوتنا إلى التفكير والسفر في تخوم الذات، من خلال ما تطرحه من أسئلةٍ حقيقية تجاه الواقع الذي بدوره يفرض مُعاينة دقيقة في أعمال ضفاء الروّاس.

وإلى جانب كلّ منير الفاطمي ويونس رحمون وإبراهيم بولمينات وغيرهم، تُشكّل أعمال الروّاس أفقاً جديداً للفنّ المعاصر في المغرب. ذلك إنّ هذا الجيل، قد استفاد من تعليمه في الخارج وعاين عن قرب ببعض المدارس الغربيّة مُختلف التيّارات الفنّية والأساليب الجماليّة المعاصرة، بما جعله يُجدّد العمل الفنّي ويفتحه على آفاقٍ جديدةٍ لا مُفكّر فيها. وتتميّز الروّاس داخل جيلها، في كونها تترك في كلّ معرضٍ فنّي لها بصمة خاصّة على عملها، بما يتضمّنه من تجديدٍ على مُستوى المادّة والموضوع. فأسلوبها الفنّي بات معروفاً ويمتلك وعياً دقيقاً بتحوّلات الواقع في العالم ككلّ.

إذْ نادراً ما نعثر على نوعٍ من اللوحة / الأثر، بدل اللوحة / الأيقونة، فالأولى، تطبع أثراً في مخيال الرائي وتُدهشه وتترك جرحاً غائراً في جسده، وهذا الجرح، يبقى بمثابة أثر موشومٍ في الذاكرة الجمعية وشيئاً فشيئاً تخترق اللوحة كلّ خصائص الذات ومُقوّماتها حتّى تتجذّر في تربة الآخر، هكذا تتحلّل عناصر العمل الفنّي وتتماهى بشكلٍ تلقائي مع تراث الآخر بطريقة تُصبح فيها اللوحة تتميّز ببعدٍ كوني، لكنْ دون أنْ تتخلّى عن مُنطلقاتها وهويتها وانتماءها إلى الحضارة العربيّة وذاكرتها.

تحرير من طرف أشرف الحساني
في 06/10/2022 على الساعة 18:00