ورغم عدم نضج هذه التجارب الغنائية، فإن بعض فرقها الموسيقية، استطاعت خلخلة المألوف داخل الساحة الغنائية المغربيّة، باعتبار أنّ أغاني الراب، قد كسّرت من سُلطة الراي الذي ظلّ منذ بداية التسعينيات على عرش الساحة الغنائية المغاربيّة. فهذه التجارب كانت تُمارس نوعاً من السحر على مُجتمع تقليديّ مُتشبّع بالأغاني التراثية، فوجد فيها خرقاً فنياً قادراً على التعبير عن ذائقته الجماليّة وهواجسه السياسيّة وتطلّعاته الاجتماعية، مقارنةٍ بأغانٍ تاريخيّة على جمالها وألقها، وإنْ كانت تطرب أذنه، فإنّها غير قادرة، على أنْ تكون امتداداً عميقاً لذائقته الفنّية وللواقع الذي ينتمي إليه جسدياً. وبالتالي، كانت هذه الأغاني(الراب) بالنسبة له قيمة مُضافة للانتماء إلى روح العصر وتخليص جسده وتفكيره من كلّ الشوائب التقليدية التي تبقى عالقة بالتاريخ، ولا تجعله يتحرّر منها، حتّى تقوده هذه اللغة الموسيقيّة الجديدة إلى اكتشاف نفسه، والبحث في آنٍ واحدٍ عن واقعٍ آخر، يغدو مُختبراً لكافّة تساؤلاته الأنطولوجية وفضاءً للعيش الكريم.
وإذا كان الراي منذ بداياته مارس سُلطة "قاهرة" على المُستمع، استطاع من خلالها توجيه المُجتمع صوب قضايا سياسيّة واجتماعية عانت منها المنطقة المغاربيّة، بسبب قلّة فرص الشغل والهجرة والقهر والبؤس، فكانت أغانيه أشبه بتعزيةٍ فنّية عن فداحة جيلٍ كاملٍ، فإنّ موسيقى الراب، لم تُحقّق ما كانت تصبو إليه، لأنّ مُنطلقاتها ظلّت مُتصدّعة، بحيث كانت عبارة عن استعارة قوالب موسيقيّة غربيّة، حاولت توليفها مع كلماتٍ مغربيّة مُلتصقة بمسام الواقع المغربيّ.
لكنّ الأجمل ظلت تلك الأغاني التي حاولت مزح الراب مع البوب، فغدت اللغة الموسيقيّة تتأرجح بين نمطين موسيقيين، ما جعلها مُذهلة وقادرة على البحث عن أفق فنّي جديدٍ. لذلك بدت بعض الأغاني اللاحقة مُفبركة وغير قادرة على مُسايرة التحوّل الموسيقيّ الذي عرفه الراب في العالم، بعدما تقلّصت سُلطة الكلمة، وأصبح الرهان أكبر على التجريب الموسيقيّ الذي يدفع الرابور إلى الرهان على البُعد الجماليّ للأغنية، عوض أنْ تكون شعاراً سياسياً أو نشيداً اجتماعياً.
إذا تجاوزنا الـ 10 سنوات الأولى من الألفية الثالثة، سنجد أنّ حجم تأثير أغاني الراب، قد تراجع إلى الوراء مقارنة ببداياته الأولى. أمّا اليوم، فإنّ السوشيال ميديا قد جعلت الكثير من الهواة، بمثابة أيقوناتٍ غنائية، بحكم أنّ أغلبها يرتكز على موسيقى إلكترونية تُغطّي عجزه الغنائي وعدم دقّة كلماته ووضوحها غنائياً. وهذه الأسماء غدت في أغانيها ترتكز بشكلٍ هستيري على الموسيقى الإلكترونية، فتبدو وكأنّها تختبئ وراء الموسيقى، بشكلٍ طافحٍ يُعطّل معها كلّ فعلٍ غنائيّ، كما هو الحال في فرقة الفناير وآشكاين، حيث اللغة الغنائية قويّة وأنماطها الموسيقيّة مُتنوّعة وتتميّز بتجريبٍ يقودها دوماً إلى لغةٍ موسيقيّة مُراوغة، لا تقف عند حدود اللحن، بل تتحلّل داخل ألحانٍ مُختلفة تُعطي للأغنية تعدّد منابعها وعناصرها الجماليّة.
ليس "طوطو" مجرّد مثال سيء لتمثيل الأغنية الشبابية فقط، على خلفية افتخاره بتدخين "الحشيش"، في الندوة الصحفية التي نظّمت على هامش حفله بالرباط، أو حتّى سهرته بمهرجان "البولفار" بالدارالبيضاء، وما رافقها من فوضى واعتقالات في ليلته. ولكنّ أغانيه عموماً تظلّ متصدّعة جمالياً وتحتوي على كثيرٍ من التنميط الموسيقيّ الذي يجعلها مُكرّرة وغير قادرة على التأثير في أغنية الراب المغربيّ، فلا غرابة أنْ يخرج "طوطو" بهذه الإكليشيهات من أجل خلقٍ جدلٍ لا يُعوّل عليه فنياً. فالأهمّ ليس تدخين "الحشيش" وإنّما التأثير في خصوصية المُنجز الغنائي الذي يشتغل داخله.
لذلك فإنّ المُتتبّع لسيرته، سيرى أنّها لا تخرج عن الشكل الغربيّ على مُستوى الفيديو كليبات، فهي تُعيد تكرار نماذج راب عالمية، كما أنّها لا تُراهن على أيّ نزعةٍ جماليّة في التصوير، بل نقلاً ميكانيكياً لصورة الواقع. فهذا النمط من الصُوَر، يتكرّر من فيديو إلى آخر، فتتحوّل معه الأغنية إلى كابوسٍ مُرعبٍ، لا يعطي للمُشاهد أيّ قيمةٍ فنّية. أصواتٌ مُختلطة وكلماتٌ عشوائية غير واضحةٍ لا تمتّ للواقع بصلة. فإذا كان فنّ الراب لغة فنّية تُعبّر عن الشارع دون الوقوع في مطبّات تُنفر المُستمع من هذه الأغاني، فإنّ الراب عند "طوطو" يغدو مجرّد خطابٍ يوميّ مُبتذلٍ يستطيع كلّ شخص تأليفه وغنائه.
بعد الفوضى التي رافقت مهرجان "البولفار" بمدينة الدارالبيضاء، تساؤل الكثير من المغاربة عن جدوى هذا المهرجان الشبابي داخل مُجتمعٍ يعاني من الفقر والتصدّع. علماً أنّ الـ "بولفار" ليس مجرّد مهرجان، بل صورة فنّية وجماليّة وصلت إليها المدينة، إذْ تُظهر مدى تقدّمها في تجاوز المحن والخيبات والرهان على الفنّ، باعتباره مُحرّراً للإنسان، يجعله يغوص في عوالم مُتخيّلة يُطرب بها الجسد ويزّج به في أحضان الإبداع والابتكار. كما أنّ "البولفار" قد غدا مُختبراً لنوعٍ من الدبلوماسية الثقافيّة التي تُقدّم البلد بشكل أجمل داخل الساحة العربيّة، بوصفها مهرجان موسيقيّ شبابي يُعنى بالإبداع المغربي، ويعمل جاهداً على دعم تجاربه وفرقه، لأنّ الرهان على الفنّ والموسيقى والرقص والسينما والمسرح، أصبح أمراً ضرورياً لاستمرار الحياة المعاصرة في حمقها وفوضاها وجمالها.