"تذكّروني حين تأكلون التُفّاح
تذكّروني حين تُصفّفون الورد
تذكّروني في جسد الحديقة
تذكّروني في شهوة الماء
تذكّروني في الأحلام المُتحلّبة في جسد الأشجار
تذكّروني في الجنّة فقط
وإذا دخلتم النار
انسوني
ولا تذكروا اسمي
أبداً"
لم يكُن صاحب "ضحكات شجرة الكلام"(ترجمه عبد اللطيف اللعبي إلى الفرنسيّة) بالنسبة للمَغاربة، مجرّد شاعرٍ باغته الحنين إلى جسده، فراح ينشد شعراً حداثياً، ولكنّه من كبار المُناضلين الذين أرسوا دعائم الحداثة السياسيّة في المغرب، موقفاً ورؤية وانتماءً، وإنْ كان الانتماء اليساري المُبكّر بدا وكأنّه مجرّد غيمةٍ عابرةٍ في حياته السبعينية، أمام جبروت كتاباته الشعريّة وقُدرته على تحريك الراكد في مياه القصيدة العربيّة، إلى جانب كلّ من الأردني أمجد ناصر والبحريني قاسم حداد والمغربيّ محمّد بنيس واللبناني عبده وازن والسوري نوري الجرّاح. كتاباتٌ اخترقت بجرأتها النصّ الشعريّ العربيّ، وتجاوزته إلى أقصى ما يُمكن أنْ يتخيّله المرء، حتّى وجدت نصوص عبد الله زريقة نفسها أمام شاعر فرنسا الكبير بيرنار نويل الذي حرص على ترجمة كتابان لعبد الله زريقة هما "حشرة اللامنتهى" و"سلالم الميتافيزيقا" وصدرا عن أكبر دار نشر فرنسيّة تهتمّ بالتأليف الشعري.
هل تعرف الأجيال الجديدة اليوم عبد الله زريقة وسيرته الجريحة في ليل القصيدة، بعدما ظلّت نصوصه على لسان الجماهير الشعبيّة تتغنّى بها وتجعلها نبراساً تُنير لها طريق التحرّر من القهر والبؤس؟ إذْ لم تكُن نصوصه في حاجة إلى وسيطٍ أدبيّ ليُعرّف بها، ما دامت قصائده تعرفها كلّ الأوساط الشعبيّة في الشوارع وساحات النضال ومقّرات الجرائد والمجلاّت، لكونها تجاوزت كلّ الجدران واخترقت الأفئدة ونحتت لها مساراً شعرياً صوب الكونية.
هل كان عبد الله زريقة، يحلم بذلك، وهو يكتب قصائده الأولى على ضوء شمعةٍ مُملّ وفي في العوالم السفلية الموجعة لابن امسيك، بل هل كان يُخيّل له أنّ نصوصه ستجد لها يوماً آفاقاً واسعة على مُستوى الترجمة إلى لغاتٍ عالمية كالفرنسية والانجليزية والألمانية والاسبانية، وهو يستمع ليلاً إلى قطرات المطر وهي تنهمر بقوّة فوق رأسه؟
لا يتعلّق الأمر بزريقة فقط، بل بكُلّ الشعراء والروائيين والتشكيليين الذين لا تعرف الأجيال الجديدة بنصوصهم الأدبيّة وأعمالهم الفنّية أو حتّى بوجودهم أصلاً. لكنّ عبد الله زريقة يُشكّل حالة فريدة واستثناءً كبيراً، بحكم مكانته داخل الأجيال السبعينية والثمانينية وكيف استطاعت نصوصه توطيد علاقة الشعر بالمُجتمع وتكثيف أواصر هذه العلاقة، التي خرجت عن حدودها الثقافيّة وغدت مسكونة بالحبّ والعشق لهذا الشاعر الاستثنائي الذي جعل من جسده جسراً لتحديث المجتمع.
ومن عاش في تلك الفترة، يعرف أنّ نصوصه كانت تُقرأ في خفاء وتُوزّع كُتُبه باستمرار في المقاهي ومدرجات الجامعة وغيرها من الفضاءات التي لم تكُن تقربها السُلطة وقوى التيار التقليدي. إنّه صدق الكلمة الذي لا يُنضب زخمها، وهي تُحوّل الشعر إلى خبزٍ وهواءٍ وماء، حيث الكتابة مسكنٌ للروح والشعر خلاصٌ وجوديّ، يُحرّر الجسد من ثقل الماضي وجراحه ويفتح للقصيدة على تخوم الواقع وعلى حاضرٍ مُؤلمٍ لا ينقضي.
في الوقت الذي يتهافت فيه المغاربة على معرفة كواليس عرس سعد لمجرّد، بدل الاستماع إلى أغانيه ومعرفة ما إذا كان حقّاً، يستحقّ كلّ الاهتمام الهستيري باحتفال عرسه، يعيش صاحب "إبرة الوجود" غربة وجوديّة منذ نهاية ثمانينيات القرن المنصرم، حين فرض الشاعر على نفسه عزلة وجوديّة يقطع فيها كلّ صلةٍ ثقافيّة، حتّى لا يُؤثّر ذلك على صمت قصائده، مع أنّه أكثر سطوعاً في فرنسا وأميركا وبلجيكا وألمانيا، حيث يلتقي به شعراء العالم وهم يُكنّون له كل الحبّ والاحترام، تقديراً لمواقفه الوطنية النبيلة واعترافاً بموهبته الشعريّة المُذهلة منذ السبعينيات، وهي ترسم في بعيد البعيد أفقاً شعرياً مُغايراً لنظام قصيدةٍ مغربيّة وجدت حداثتها مُبكّراً، لكنّها سرعان ما غدت في لحظةٍ من مسارها الشعري، مجرّد صدى لما كان يُكتب في المشرق العربيّ.
لقد خرجت نصوص زريقة من الجامعة والمقاهي والأزقّة المائلة والأراضي المُنهدّة وأجساد الفقراء والمهزومين والعابرين والمُنتحرين على أعتاب السياسة والألم والفجيعة. إنّها نصوصٌ ظلّت مسكونةٌ بوجع مرحلةٍ لم يندمل جُرحها بعد، لكنّها مازالت تُضيء درب الحداثة في ليل الثقافة المغربيّة اليوم، وتدفعها إلى تجديد نفسها من الداخل بشروطٍ وتوابل مغربيّة، لا يكون الآخر إلاّ مجرّد ضيفٍ في ثقافتها.
ومن يقرأ دواوينه الشعريّة مثل: "حشرة اللامنتهى"، "سلالم الميتافيزيقا"، "سلحفاة المحو" سيتلمّس النظام الجمالي الذي بات يطبع شعره، وكيف يُمكن للنّص الشعري أنْ يخترق حدود الكونية، لا من خلال محاكاة الشكل الشعري الغربيّ، ولكنْ بالانطلاق من الجغرافية المحلّية وما يطبعها من خصائص البلد وذائقته وثقافته وفنونه وجماله، إنّه أشبه بعودة المكبوث الشعري، الذي يجد فيه الشاعر نفسه مُلتاعاً بتراثه الشعري وثقافته، فيجد نفسه مُضطرّاً للعودة إلى ذاكرته وجسده.
إنّ ما ميّز أشعار عبد الله زريقة منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، أنّها أعادت للشعر هيبته وجعلته يشتبك مع قضايا الناس البسيطة والأشياء الصغيرة والألم اليوميّ للمُجتمع المغربيّ، حتّى غدت هذه النصوص، بمثابة أغانٍ وشعارات عند المغاربة يتغنون بها وينسجون على منوالها ذاكرة قويّة سندها المُقاومة وقوامها الحبّ.
لم يتوقّف أمر نسيان نصوص عبد الله زريقة عند الأجيال الجديدة فقط، بل حتّى ضمن الجامعات المغربيّة ومُختبراتها العلمية، إذْ لم أقرأ يوماً بأنّ مُختبراً أدبياً، قد خصّص ندوة أو مُؤتمراً أو لقاءً عابراً يُخضع فيه أعماله الشعريّة للدرس النقديّ، وما يُمكن أنْ يفتحه لـ "مشروعه" الثقافي، ويجعله يتصادى مع الأجيال الجديدة، بعدما أجّح ذاكرة الناس بشعره ومواقفه وجُرحه الأزرق الغائر في أجسادنا كمغاربة.