على مدار سنوات السبعينيات والثمانينيات، لعبت الجامعة المغربيّة دوراً بارزاً، باعتبارها فضاءً للتّعدد المعرفي ومُختبراً لتوطيد الأفكار وميلاد حداثةٍ ثقافيّة قويّة، ساهمت الترجمة في تقريب أواصر صداقتها من وجدان المثقف، لما حقّقته من وعيّ وجوديّ بالواقع الذي ينتمي إليه. فكان نتاجه الثقافي أكثر تجذّراً بما كان يشهده البلد من تأخّر تاريخيّ وتحوّل سياسيّ وتصدّع اجتماعي، بما جعل مُجمل كتاباته أكثر تعلّقاً بمدارات الواقع رغم جراحه.
لم تكُن الجامعة مكاناً للاستراحة واللهو بالرأسمال المعرفي، ولا جعلت نفسها يوماً، تعيش خارج التاريخ ومسارب الواقع كما يحدث الآن، إذْ ظلّت الجامعة مُختبراً حقيقياً للفكر والإبداع والفنّ والابتكار، سيما وأنّ هذه المجالات اخترقت أسوار الجامعة والتحمت بقلوب الناس، فبدأت تظهر على هوامش المجلاّت والجرائد والملاحق الأسبوعية كتاباتٌ رصينة، شكّلت مُقدّماتٌ أوليّة للكثير من المشاريع الثقافيّة لكلّ من عبد الله العروي ومحمّد عابد الجابري وعبد الإله بلقزيز ومحمّد سبيلا والأخرى في الأدب مع محمّد بنيس وعبد الله زريقة ومحمّد برادة وعبد اللطيف اللعبي، بما يجعل هذه الكتابات تتجذّر في بيئتها وواقعها، فهي لم تعمل على استعارة واقع آخر، بقدر ما انشغلت بتفكيك واقعها إلى صُوَر، فبدت كتابات عبد اللطيف اللعبي مثلاً وثيقة تاريخيّة عن واقع مغربيّ مُزمن وعن التحوّلات الاجتماعية التي طالت المشهد المغربيّ آنذاك.
وبغضّ النّظر عن البُعد السياسيّ الذي ظلّت ترزح تحته، فإنّ أفكارها استطاعت خلق جديدٍ يُعوّل عليه في تاريخ الثقافة المغربيّة الحديثة منها والمعاصرة. وكانت تعمل هذه الكتابات بالمُوازاة مع الجامعة على إنتاج مغربٍ ثقافي سنده التجديد وقوامه التحديث. فلا غرابة أنْ تطرق كتاباتهم باب العالمية، بعدما غدا المرء يُعاين عشرات البحوث الجامعية حول مجلة "أنفاس" لعبد اللطيف اللعبي و"الثقافة الجديدة" لمُحمّد بنيس. فقد كسّرت كتاباتهم نمطيّة الثقافة التقليدية، بما اجترحوه من أفكار مُحكّمة وذات علاقة بالتحوّل الذي كان يشهده الواقع وإنْ حلّقت أفكارهم في سماء زرقاء، لم يكُن الطير يقوى على التحليق فيها بحرّية، بسبب حساسيّة مرحلةٍ سياسيّة دفعتهم إلى استخدام الرمز والاستعارة والمجاز.
على هذا الأساس، يُعدّ جيل السبعينيات في المغرب الجيل الذي أرسى دعائم الحداثة بمُختلف تمظهراتها وتجلّياتها، بما يرتبط بها من تشكيلٍ وأدب وسينما ومسرح. غير أنّ قوى التقليد بدت وكأنّها تمسك بتقدّم الثقافة المغربيّة من الوراء، عبر خطابات دينية وعظية تبناها الإسلام السياسي منذ نهاية السبعينيات، وعمل من خلالها جاهداً لدحض شوكة اليسار والقضاء على ما تبقّى من المثقّف العضوي المُلتحم بقضايا تاريخه ومُجتمعه. وعلى الرغم ممّا ظلّت تشهده الجامعة إبّان السبعينيات من صراعٍ أيديولوجي، بين دعاة التجديد وسدنة التقليد، فإنّها على الأقلّ بدت أقلّ وطئة ممّا يحدث اليوم داخل المشهد العلمي، بعدما كشف التقرير الأخير عن احتلال المغرب مراتب متأخّرة جداً فيما يرتبط بالبحث العلمي.
لكنّ الغريب يكمن في استياء عدد من الجامعيين المغاربة عن خلاصات هذا التقرير، فهم لم يستسيغوا هذه الحقيقة الموجعة وكأنّ الذين يُدرّسون في الجامعات، هم أشباح من كواكب أخرى، ولا علاقة لهم بذلك. مع العلم أنّ تأخّر كهذا يتحمّلون مسؤوليته إلى جانب الجهة الوصية على التعليم العالي ومختبرات البحث العلمي، في وقتٍ يتزايد فيه عدد الحاصلين على الدكتوراه والماجيستر، دون أيّ بحثٍ أو كتابة أو تفكير في مجال تخصّصهم.
ليس التقرير مجرّد شيءٍ عابر، ولكنّه عرى واقعنا المُفبرك وهزالة الميزانية المُخصّصة للبحث العلمي والإبداع، رغم وجود تجارب فكريّة وأدبيّة وفنّية في المغرب، عملت منذ وجودها بالجامعة على ممارسة البحث العلمي بقوانينه وأبّهته وأخلاقياته، وراكمت بذلك مُنجزاً علمياً رصيناً بمجهودٍ فرديّ يُضحّي بالنفس ويقود الذات إلى ليل السؤال.
لكنْ بعد غياب المثقف الغرامشي عن الجامعة لأسبابٍ هي نفسها تاريخيّة، وانسحاب نماذج أخرى بسبب اصطدامهم بالسياسة وعيش تجارب مؤلمة في الاعتقال، بعدما فكّروا في مغادرة البلد، بحثاً عن فصلٍ جديدٍ من حياتهم، بقيت الجامعة تنتج نمط "المثقّف الببغاء" الذي لا يكتب ولا يبدع ولا يفكّر في الثقافة بمفهومها المركب، إذْ يخصّص "وقته" للتلقين والحكي وقراءة المراجع والتحضير من خلالها، إذا لم ينسخها نسخاً، كما هو الحال لآلاف بحوث الدكتوراه التي لم تُنشر يوماً في كتابٍ أو مجلّة مُحكّمة، قبل أنْ يعثر الباحثون الشباب بين طيّاتها عن ركام الأخطاء وحجم السرقات العلمية، التي تأخذ وتقتبس من أسماء فكريّة كبيرةٍ، دون أنْ تُفكّر في الإحالة عليها أو حتّى تقديم إشارة صغيرة حول المجهود الذي بذله صاحبها.
لا ينبغي النّظر إلى التقرير، باعتباره مجرّد ورقةٍ عابرة، ولكنْ بوصفه علامة تستحقّ التوقّف والتفكير في مآل الجامعة المغربيّة ومصيرها، ونحن اليوم على عتبة الإصلاح الجديد الذي يُخرج المدرسة العمومية من جمودها، ويجعلها تدخل مُختبر الحداثة ومُسايرة متطلّبات سوق الشغل وآفاقه في الزمن المعاصر.