أشرف الحساني يكتب: أين هي مختبرات الفن؟ (1/1)

أشرف الحساني ـ ناقد فنّي

أشرف الحساني ـ ناقد فنّي . DR

في 12/09/2022 على الساعة 16:23

أكبر وهم تعيشه الثقافة المغربيّة اليوم، هو الادّعاء بوجود مُختبرات علمية داخل جامعات تعنى بفنون التعبير البصري ومتخيّله من سينما وتشكيل وفوتوغرافيا. فالجرح غائر فينا والسلفية الثقافيّة تتقافز يوماً بعد يوم، وتنفي معها كل ما قدّمته الأجيال الأخرى، التي تبدو الثقافة الآن وكأنها تعيش على ماضي أمجادها.

في تاريخ الثقافة الغربيّة الوسيطة والحديثة منها، ظلّ الفنّ بمفهومه المُركّب يتنزّل منزلة رفيعة ومرموقة داخل وجدان مؤسّساتها وحُكّامها وجامعاتها ومُختبراتها، باعتباره تخصّصاً قائم الذات، يستحيل مزجه مع تخصّصاتٍ أخرى داخل العلوم الإنسانية والاجتماعية، وإنْ تضمّنت بعض مواده داخلها، فيأتي بصيغة التثمين الذي يعطي مُقاربة جديدة ترسم له ملامح مُغايرة داخل النسّق الفكري، كما هو الحال مع فلسفة الفنّ وسوسيولوجيا الفنّ. وبغضّ النّظر عن مدى استغلال الثقافة الغربيّة للمجال الفنّي للتعبير عن كلّ ما هو سياسيّ، فإنّ القارئ لتاريخ الفكر الغربي، لا يكاد يعثر على فترةٍ ذهبية للفنّ بمُختلف تعبيراته البصريّة، إلاّ من خلال عصر النهضة الإيطالية، حيث تحرّر فيه الجسد من ربقة الكنيسية ونظامها الإقطاعي الذي كان يحكم قبضته على العالم الغربي، فبدت أوربا وكأنّها تعيش في رحابة الدّيني الذي كان مُسيطراً على نمط تفكير وسلوكات الناس في ذلك الإبان.

ورغم أنّ مظاهر النهضة الأوروبية، قد عمّت مُختلف الجوانب السياسيّة والاجتماعية والتقنية، فقد ظلّ الفنّ أكثر مجالٍ خصب، استطاع فيه فنّانون مثل ليوناردو دافينشي ومايكل أنجلو وبوتيتشيلي وغيرهم، تكسير الأفق الدّيني وإخراج المُجتمع من سطوة الكنيسة وتعاليمها الصارمة من خلال ما كانت تُمارسه على أجساد الناس من تحنيطٍ وتدفعهم إلى الخضوع إلى رغباتها. لقد مثّلت لوحاتهم أشبه بصرخةٍ صادقةٍ تجاه المؤسّسة الدينية وما ظلّت تُمارسه من تضليل على الناس. بهذا المفهوم يكون الفنّ مُحرّكاً للتاريخ وليس هامشاً له، كما هو الحال بالعالم العربيّ، إذْ رغم وجود تجارب تشكيليّة كبيرة ثارت على النُظم السياسيّة والدينيّة والاجتماعية التي عاشت فيها، إلاّ أنّها لا تصل إلى الفنّ الغربي وما استطاع إحداثه في براديغم التاريخ وتغيير الكثير من المسارات السياسيّة والاجتماعية، مُدافعاً عن حريّة الأفراد والأفكار، لا المؤسّسات الدينية المُتمثّلة في الكنسية ورجالاتها.

يحبل الفنّ المغربيّ المعاصر بكثيرٍ من التجارب الفنّية الهامّة، سواء تعلّق الأمر باللوحة المسندية كـ: إبراهيم بولمينات (تشكيلي يُقيم في بروكسيل)، فؤاد شردودي، عزيز سحابة أو حتّى الأخرى التي كسّرت صنمية اللوحة وفتحت لنفسها أفقاً جديداً من خلال مُراهنتها على الفضاء العمومي أو المفتوح، كما هو الحال في تجارب كلّ من صفاء الروّاس ويونس رحمون ومنير الفاطمي وغيرهم. وقد أجزم أنّ هذه التجارب المُذهلة، تطرح أعمالها الفنّية إشكالاتٍ وقضايا ومفاهيم قد لا يتجرأ على طرحها مُفكّر مغربيّ، لكونها تظلّ مَشغولة بالواقع وأسئلة الراهن وما يدور في مساربه من موضوعات تتعلّق بالهويّة والذاكرة والتاريخ والجسد والمتخيّل.

ولأنّ هذه التجارب الفنّية تعيش غربة وجوديّة بسبب عدم قُدرة النقد الفنّي العربيّ على التفكير في عوالمها، فإنّها عادة ما تتبرعم أفكارها في تربة الفكر الغربيّ الذي له القُدرة على مُتابعة التجارب التشكيليّة ومنحها ما تستحقّ من الاهتمام البالغ الذي يُغذّي معه فعل الكتابة نفسها، بحكم ما تُتيحه اللوحات والأفلام والمنحوتات والصُوَر الفوتوغرافية للكتابة الفكريّة والتاريخيّة، إذْ تُزوّدها بنظرةٍ فكريّة مُغايرة، مقارنة بالمراجع والمصادر ذات العلاقة بالتخصّص المذكور. هذا على الرغم من كون الثقافة الغربيّة لا تُقيم أيّ حدود بين التعبيرات الفنّية وأنماط التفكير المُجرّد، طالما تعتبرهما نمطاً فكرياً واحداً، لكون الفنّان البصريّ يستطيع من خلال لوحةٍ أو منحوتةٍ أنْ يطرح أسئلة فكريّة قد تُحاكي أو تتفوّق على زخم نظرياتٍ ظلّت صامدة في تاريخ الأنساق الفلسفية.

إنّ الفنّ شيءُ جميلٌ يُجمّل حياتها اليوميّة ويجعلنا ننسج علائق جماليّة وإنْ بدت وهمية مع الأشياء والكائنات، لكنّ الوهم هنا، ينبغي فهمُه على أساس كونه سحراً خلاّقاً يدفعنا إلى التفكير في كلّ ما نتلمّسه ونعيشه، خاصّة في زمنٍ غدا فيه الفنّ المعاصر أكثر تجذّراً في واقعه وله القُدرة أكثر من الفنّ الحديث على الاشتباك مع الواقع، لأنّه يعمل من خلاله على اجتراح أفقٍ بصريّ، تكون الأشياء الواقعيّة بمثابة سندٍ فنّي أو مادّة للاشتغال، كما هو الحال مع التجارب التي خرجت من إسار اللوحة المسندية وفتحت لها آفاقاً مُغايرة على مُستوى السند ومواد الاشتغال الفنّي.

لم يصنع الفنّ التشكيلي يوماً التاريخ المغربيّ، ولا فكّر الفكر المغربيّ المعاصر، بأهميّة الصورة في طرق موضوعات، ظلّت مَكبوتة في الفكر العربيّ المعاصر، لذلك بقيت شعب الفلسفة والتاريخ والأدب داخل الجامعات، وكأنّها تنتمي إلى كواكب ومجرّات بعيدة عن الزمن المعاصر. بل قد يُخيّل إليك أنّك في عالم اليقينيات السطحية المُميتة التي لا تقبل أيّ مراجعةٍ أو تفكير أو تحليل أو نقد. فكيف يجوز لثقافةٍ مغربيّة تنتمي إلى زمن "الصورة"، لم تُفكّر مختبراتها العلمية يوماً، في فتح نافذة جديدة للبحث في تاريخ الفنّ وفلسفته وسوسيولوجيته؟ كيف يُمكن الاهتداء إلى حداثة الثقافة ونحن ما نزال في شُعبنا نُدرّس أولادنا بحور الشعر وأوزانه؟ بل كيف نُغامر ونتحدث عن حداثة الثقافة المغربيّة ومُفكّروها يعيشون في غيبوبة ماضٍ يجعلهم أمواتاً وهم أحياء؟

تحرير من طرف أشرف الحساني
في 12/09/2022 على الساعة 16:23