حين قرّر المُغنّي الأردني أدهم نابلسي قبل شهورٍ مضت اعتزال الغناء، لم يُفكّر أنْ يُصبح داعية أو رقيباً على الفنّانين العرب، بل عمل ببساطة على ترك الغناء والموسيقى والدخول في عزلة التديّن والانغماس في كلّ ما هو روحي. ما فعله بطل فيلم "إكتشاف"(2021) على مدار سنةٍ مُناقضٌ تماماً لمفهوم الدين، فكيف يجوز الخروج والتدخّل في أمورٍ الغير، ممّن لهم علاقة بالمجال الفنّي ودعوتهم إلى الرجوع للطاعة، علماً أنّه كان ممثّلاً وما يزال ينتمي إلى عائلة فنّية، طالما اعتُبرت وجوهها الأجمل على الساحة التلفزيونية المغربيّة؟ وعلى الرغم من أنّ الفرق شاسعٌ، بين ما فعله البسطاوي مقارنة مع أدهم نابلسي، لكنّه يُضمر في طيّاته اختلافاً مُغايراً للدين وما ينبغي على المُؤمن الحقيقي فعله، في وقتٍ يخرج هاشم البسطاوي وكأنّه أمام شاشة السينما، يُقدّم المَواعظ ودروس الأخلاق للمغاربة ويتّهم الفنّانين بأشياء لا علاقة لها بالدين، فهو ليس فقيهاً ولا يمتلك عدّة علمية ولا تكويناً دينياً أصيلاً، يجعل الناس يُتابعونه ويستمعون إلى ما يقترحه عليهم من أفكار.
إنّ ما يفعله هاشم البسطاوي وغيره على وسائل التواصل، يُمثّل نموذجاً واضحاً لما أضحت عليه الحياة المعاصرة في تلقائيتها وفوضاها، إذْ رغم الهشاشة التي كانت تطبع البلد في السنوات الماضية، لكنْ على الأقلّ، لم يكُن الرأسمال الدّيني قادراً على اكتساح الفضاءات العمومية وفرض أفكاره، بحيث أصبحنا نُعاين نماذج كثيرة من الناس تلعب دور الداعية داخل الفضاء المَديني من مقاهٍ وحافلاتٍ وحدائق. إنّهم يخرجون الرأسمال الدّيني من منزلته الفرديّة الرفيعة ويزجّون به في سوق المُضاربات الفنّية والحياة اليوميّة العامّة لدرجةٍ يُصبح فيها الخطاب الدّيني بأبهته المعرفية موضوعاً شعبوياً يستطيع الكلّ التحدّث فيه وإقامة نقاشات عميقة في أمورٍ أكبر منهم تتعلّق بمسألة تحريم الفنّ والصورة والجسد والمُتخيّل ونظيره الواقعي الذي لا علاقة له بتاتاً بمسألة التحريم.
وإذا كانت سطوة الدّيني على الحياة العربيّة المعاصرة، تعود أساسً إلى الاستغلال الفاحش للسياسة، وذلك إبّان سبعينيات القرن الـ 20 حيث لم تجد السلطة بالعالم العربي، إلاّ قوّة الرأسمال الدّيني من أجل تكسير حدّة اليسار العربيّ وتوهّج ينابيعه الأولى. فقد اعتبرت هذه المرحلة بمثابة مخاضٍ عسير للحداثة السياسيّة العربيّة، التي نفت معها كلّ مبادئ الديمقراطية والحرّية والعدل والمساواة، من خلال استغلال تسييس الديّن وإفراغه من أبعاده الروحية والرمزيّة. فكانت النتيجة أنّ وجد العالم العربي نفسه، أمام ذئاب الحركات الإسلامية التي استحوذت على الفضاء العمومي (هابرماس) وغدت تُحلّل كلّ قضاياه وإشكالاته حسب منطقها وتفكيرها. ليس الدّين هو المُشكل، ولكنْ كيف نفهمه نحن هذا الدّين ونعمل جاهداً على تسويغه وفق الطريقة التي نراها مُناسبة. فما يفعله الدعاة الجدد، هو أنّهم يعملون على تحويله، صوب عالم الفنّ والإبداع والابتكار، حيث الواقع يختفي وراء الصورة، ويغدو مجرّد سيمولاكر عن حقيقة ليست حقيقة كما قد يُخيّل إلينا. فحين نرى مشهداً ما داخل السينما المغربيّة، فينبغي فهمُه أنّه ليس جسداً حقيقياً، وإنّما جسدٌ رمزيّ مُتخيّل، يتحكّم في سياقات مَشاهده مفهوم "الإبداع" المُوجّه من لدن الجسد نفسه.
ما يفعله هاشم البسطاوي أخطر من ذلك، فهو يستغلّ "الصورة" بكلّ حمولاتها الوجوديّة، من أجل تمرير خطابه الدعوي الذي يُفسّر كلّ شيء بالرجوع إلى الماضي. يفتقر البسطاوي إلى تكوينٍ علمي، يجعله يخوض في مسائل دينية مُرتبطة بالديّن في علاقته بفنّ التمثيل. ودائماً تكون خرجاته عبارة عن حكم قيمةٍ، لا يُراعي فيه حرّية الناس في اختيار ما يليق بحياتهم وتفكيرهم وطموحاتهم ورغباتهم في الحياة، لكونه يجهل معنى الصورة ومظاهرها وأنماطها وتجلّياتها ورسائلها والدور الذي يُمكن أنْ تلعبه في تفكيك حياة الناس. الغريب أنّه يستعمل الصورة باعتبارها مفتاحاً للزمن المعاصر، لكنّه مع ذلك يُفضّل الإقامة في تخوم الماضي.
هذه الازدواجية المُفزعة، تجعل كلّ خرجاته مُتناقضة ومُضطربة ولا أساس معرفي يُضلّل سيرتها في حياة الناس، لأنّها لا تحُثّهم على التفكير في جوهر الديّن، بل تُبعدهم عنه وتجعلهم يمتعضون عنه. إنّ المُشكّل الحقيقي في خرجات هاشم، أنّه يُقحم "الدّيني" في أمور الفنّ، فيُحوّل كلّ الأعمال السينمائية المعاصرة على جمالها وتنوّعها وغناها من الناحيتين الفنّية والجماليّة إلى منطق الحلال والحرام. من ثمّ، فإنّ استغلال الصورة لتنكيل حياة الغير أمرٌ غير مقبول أخلاقياً، لأنّه يُعدّ قلباً لهذا التصوّر الأنطولوجي للدّين، بعدما ينزع عنه كلّ أبعاده المعرفية وحمولات الروحية الجميلة.

