وهي موضوعات قد استنفذت مادتها على مستوى التفكير، ولم يعُد لها أيّ أثرٍ على مشاغل ووجدان الاجتماع المغربيّ، بحكم أنّها لم تعُد ذات علاقة بالواقع الذي ننتمي إليه اليوم كأفراد وجماعات. وبغضّ النّظر عن تاريخ هذا الفكر وما يحبل به من متونٍ فكريّة قويّة لكلّ من عبد الله العروي والطيب التيزيني وحسين مروة ومهدي عامل ومحمّد أركون ومحمّد عابد الجابري، فإنّ هذا الفكر يُظهر تقليديته على مُستوى اشتباكه مع قضايا الراهن، فهو لا يتجاوز قلاع السياسة والدّين، ما يجعله فكراً دوغمائياً، لا يكترث بتحوّلات الزمن المعاصر، طالما أنّ أغلب كتاباته تعطي للشرط التاريخيّ أهميّة بالغة في تحليل الواقع وأحداثه، وتجعلهم يبدون للقارئ وكأنّهم يُقيمون في غيبوبة ماضٍ لم يخرجوا منه منذ منتصف الستينيات.
وعلى الرغم من الجدل الذي تُحقّقه بعض مظاهر الصورة في العالم المعاصر، إلاّ أنّ هذا الفكر ظلّ بمنأى عن التفكير فيها وما تقترحه من أفكار جديدة على البحث العلمي، خاصّة على مُستوى البحث التاريخي، حيث لم يستند المُؤرّخ المغربي على الوسائط البصريّة، باعتبارها وثائق تاريخيّة قادرة على التأريخ للحظة الإنسانية ومآلاتها ورصد سيرة الإنسان في علاقته بالذاكرة والتاريخ والفضاء. ولأنّ المؤرّخ المغربيّ مجبولٌ على التقليد والجري وراء الأحداث السياسيّة العابرة القائمة على تدوين أخبار السلاطين وبلاطاتهم. وهو النّمط الغالب على الكتابة التاريخيّة المغربيّة، إذْ يستحيل العثور على مؤلّف حول تاريخ التشكيل أو السينما أو العمارة أو الفوتوغرافيا، طالما أنّ المُؤرّخ على تواضع تكوينه المعرفي، يعتبر أنّ هذه المجالات تدخل ضمن مدارات الأدب ومُتخيّله، وبالتالي، لا يُمكنها أنْ تخدم مُستقبل الكتابة التاريخيّة.
والحقيقة أنّ رأياً تقليدياً كهذا، ما يزال إلى حدّ اليوم، يُعيق فعل الكتابة ومسارها داخل الجامعات والمُختبرات العلمية، لأنّه يزجّ بها في سلسلةٍ من التنميطات والتكرارات، التي تغدو معها الكتابة فعلاً إيديولوجياً، بعدما يُصبح التاريخ وكأنّه مشروعٌ سياسيّ يُحوّل الماضي إلى حاضرٍ لا ينقضي. فما الغاية من اصدار كتاب اليوم حول المقاومة المُسلّحة والحركة الوطنية وظروف نشأة وتطور الحماية والتدخل الأجنبي في المغرب، أمام غياب تامّ لكتابات علمية حول تاريخ الفنّ والصورة عموماً بمُختلف ألوانها وأطيافها. والطريف أنّ الجامعة مازالت تنتج عشرات الدكتوراه في هذه الموضوعات، ولم تقرب مجال التعبيرات الفنّية، بوصفها مجالات تتبرعم على هوامش التاريخ، وتمتلك من الجرأة ما يجعلها قادرة على استيعاب الواقع وتحويله إلى الذاكرة. إذْ تمنحنا تجربة فنانٍ تشكيليّ مثل الجيلالي الغرباوي أو عبّاس صلادي على فهم الرجّات، التي تطال البشر في لحظةٍ من حياتهم، حيث لا يغدو الفنّ تزويقاً أو تدريباً، بل علامة بصريّة عن جُرح الوجود.
فالفنّ يُمكّننا من قراءة تحليلية للتاريخ، لكنْ من المُنطلق الهامشي لا المركزيّ، بما يُمكّننا من تقديم نظرةٍ جديدة للتاريخ، ترتكز على الأعيان والسلاطين وعلية القوم ممّن يصنعون السُلطة في حقبٍ مُختلفةٍ ومُتباينة من التاريخ المغربي الوسيط منه والحديث. وذلك بحكم أنّ اللوحة لا تستطيع تصوير الواقع، بل تنقله فقط من خلال المادّة واللون. هنا يتدخّل الإدراك ليتحكّم في علاقة اللوحة بصناعة التاريخ، حيث يبدو مجرّد انطباعاتٍ لونية على جسد اللوحة، لكنّها قادرة تقديم صورة مُختلفة عن التاريخ الرسمّي المركزيّ المُوجّه صوب أجندات المُقرّرات الدراسية.
لا يقوى الفكر المغربيّ المعاصر على مُجابهة موضوع الصورة، لأنّ ثقافته هشّة ومُرتبكة وغير مُتطوّرة وليست قادرة على مُعاينة وتشريح مفاهيم من قبيل: الصورة والسينما والجسد والألم والقلق والصمت، بما تتطلّبه هذه المفاهيم من ثقافةٍ شاملة ومعين فكريّ لا يُنضب، ولا يكفّ عن البحث والحفر في الأساس التي ينبني ويُشيّد عليها الفكر المعاصر. فلا غرابة أنْ تظلّ ثقافة الصورة وفنونها مجهولة على الثقافة المغربيّة، رغم التحوّلات التي ألمّت بها في الآونة الأخيرة.
هذا وتُعدّ علاقة الصورة بالتاريخ بمثابة مبحثٍ فكريّ جديدٍ في البحث التاريخيّ، مع أنّ الفكر الفرنسي، قد استنفذها ووضع أساسها الفكريّة منذ منتصف القرن الـ 20 مع كلّ من جيل دولوز وريجيس دوبري وجاك أومون وإدغار موران وناتالي إينيك. لكنّ الفكر العربي عموماً لم ينشغل بهذا المفهوم، ولا يعيره أي اهتمامٍ يُذكر، إلاّ من خلال كتابات فردية يُحاول أصحابها تحطيم الأصنام الأيقونية التي أسسها الفكر المغربيّ في علاقته بالتاريخ. إنّ الصورة تفكير في الحاضر وإدانة للواقع.
إنّها شكلٌ من أشكال الميتافيزيقا التي تُسكّر رتابة الوعي وتجعله مُتحرّراً من رتابة التاريخ وأوهام الذاكرة ومُنفتحاً في آن على تحوّلات الواقع السياسي والاجتماعي. لذلك تُعتبر السينما، مقارنة بالكتابة التاريخيّة (التي تتّسم بالصرامة العلمية) من أكثر الفنون البصريّة اشتغالاً على الواقع ومُتخيّله، إذْ نعثر على عشرات من الأفلام السينمائية التي نجحت في تصوير الواقع، رغم أنّ المؤرّخون المغاربة، لم ينشغلوا بمُتخيّلها، كما هو الحال مع المؤرّخ الفرنسيّ مارك فيرو الذي حوّل السينما إلى أداة فعّالة لإدانة الواقع واختبار جوهر التاريخ في سراديب السينما وصُوَرها.