في هذه الزاوية الأسبوعية الجديدة، يلتقي le360، بجملة من كبار الكتاب والشعراء والفنّانين والمخرجين من العالم العربيّ، ممن أُتيحت لهم الفرصة للزيارة والقراءة عن المغرب أو الإقامة فيه أو حتّى المرور عبره إلى أمكنةٍ أخرى، من أجل تقديم صورة جماليّة بانورامية خارجية عن البلد وعُمق عاداته وروعة تقاليده وحداثة ثقافته وجماليّات فنونه وما مارسه منذ سبعينيات القرن الـ 20 من سحرٍ على تفكيرهم وأجسادهم ومُتخيّلهم وجعلهم يحلمون ويتطلّعون أكثر إلى الالتحام بالواقع المغربيّ وتاريخه من أجل التفكير والكتابة والإبداع والابتكار.
إنّ الزاوية ليست مجرّد سفرٍ في الأمكنة والفضاءات والجغرافيا عموماً، وإنّما سفرٌ عميقٌ في سراديب الجسد وأحراش الذاكرة. سفرٌ ضاربٌ في عمق الثقافة والفنّ ودهشة السؤال. هنا يتحرّر العقل من صرامته الوجودية القهرية ويُطلق الجسد العنان أكثر لمُتخيّله ومشاعره وأحاسيسه في التعرّف على ثقافة الآخر وفنونه، حتّى يتمرّدان على صبغة العقل المنطقية ويُقدّمان معاً صورة ثقافيّة نوسطالجية عن أواصر الصداقة والحب التي انتسجت منذ منتصف القرن الـ 20 بين المغرب والمشرق.
الحلقة الـ 13 من هذه الزاوية الأسبوعية، مع الشاعرة السوريّة المُقيمة في مدينة تولوز الفرنسيّة ميس الريم قرفول، وهي من الأسماء الشعريّة الجديدة داخل المشهد السوري المعاصر. تعرفت على ميس منذ صدور عملها الشعري الأوّل "حين ساعدنا الحرب لتعبر" ومنذ ذلك الحين، تتقاسم معي ميس الريم قرفول كلّ ما تكتبه من نصوصٍ شعريّة مُذهلة ترُجّ الجسد وتُرمّم ذاكرة الحرب. وتتميّز نصوصها بقُدرة فريدة على تطويع مَشاهد يوميّة وتحويلها إلى شلالٍ شعريّ لا يتوقّف، حيث تتداخل صُوَر الطبيعة مع السيرة الذاتية ويتقاطع المعرفي بالاستيهامي ويُكوّنان صرحاً شعرياً مُميّزاً، لا يجعل نصوصها نسخاً فجّاً للشعريّة العربيّة ونظيرتها العالمية، بل تبحث من خلال فضاءاتها اليوميّة على لغةٍ شعريّة أقرب إلى السوريالية منها إلى الواقع الذي تنتمي إليه.
لم تأتي ميس الريم يوماً إلى المغرب، لكنّها تحمله دائماً في جسدها، مذ تمّ رفض تأشيرة سفرها. غير أنّ هذا العشق الحميمي للبلد وذاكرته وثقافته وفنونه، يظلّ جرحاً في جسدها، وسرعان ما تُحوّله إلى حيّز شعريّ مُتخيّل به تحتمي من مرارة الواقع وتدفع بحدود المُخيّلة صوب المغرب، من خلال سفرٍ بصريّ به تجوب الأرض والذاكرة معاً.
بداية، ما الأسباب الوجدانية والمعرفية، التي ساهمت في سيرة وتشكيل وعيكم وسفركم/حذف سفركم صوب المغرب؟
حين كنت صغيرة، انغمست حتى آخري في بيئتي القروية، وذلك دون أي وعي مني بأثر المكان عليّ. حين كبرت وبدأت أقشر يوماً بعد يوم أثر بيئةِ المربى الأول عني بدأت أكتشف علاقتي القوية بمفردات المكان. كان لانغلاقنا المنفتح على آفاق الطبيعة أثر في هذا الانغماس غير الواعي. مع انفتاحي على ثقافات أخرى بسبب انفصالي عن بيئتي القديمة المتمثلة في قرية من الساحل السوري، بات تقربي من تلك الثقافات يذهب حد الانغماس متى وجدت الوسيلة لذلك، وذلك يساعدني بأن أخلق الترابط الحميمي مع بيئتي الأولى.
في المغرب، كما في كل البلدان التي يختلط فيها بهار التراث المزركش، كما في الصور المنشورة على شبكة الانترنت عن مدينة فاس، والحداثة التي تصارع في بلداننا العربية أو دول العالم الثالث لتجد طريقاً يساعد الأجيال الجديدة لتجد توازنا ما، حاولت أن أجد، من بعيد، علاقة تؤهلني لأكون على مسافة ما من هذا البلد.
في فرنسا بدأت أفهم المغربية الدارجة أكثر مما قبل، بينما يفهم الأصدقاء المغاربة اللهجة السورية بسهولة، وذلك إما بسبب "مسلسلات البيئة الشامية"، أو بسبب انتشار اللهجة الشامية واللبنانية عموما في وسائل الإعلام العربية. حاولت ان أفهم آلية تفكير المهاجرين الذين صادفتهم في حياتي وفي مناسبات مختلفة.
وكل مرة كنت أتفاجأ بكمية التنوع والتناقض، ومن ثم مقدار الحرية في الاختلاف بالرغم من امتلاك المغرب هوية واحدة من الناحية الدينية. مع ذلك، أظن بأن الأمر يتطلب المزيد من السعي لتقبل الاختلافات الصغيرة التي تعبر عن تباين فكري خاص وعن أصالة تفكير وجدتها عند العديد من الكتّاب المغاربة. وهذا الأمر ينطبق على عدة بلدان عربية مع تفاوت الدرجات واختلاف الخصائص.
هل يُمكن أنْ نستلهم هنا عبارة محمود درويش المُدهشة: الطريق إلى البيت أجمل من الوصول إليه. كيف كان طريقكم إلى المغرب؟
حقيقة، تمت دعوتي إلى مهرجان للشعر في المغرب منذ عدة سنوات ولم أقدر الوصول بسبب مشكلة في الأوراق بوصفي سورية. حينها، في طريقي إلى هناك، وبصورة فعلية بعيداً عن المجاز، حلمت كثير بالاقتراب من أطلسي المغرب بزيارة المتوسط بنسخته الغربية في مدينة المضيق، بالصعود إلى جبال شفشاون الخضراء التي تشبه جبال قريتي وزيارة الأصدقاء هناك. أما على سبيل المجاز، نعم، طالما أن هناك جملة: أود يوما زيارة المغرب لأن كثيراً من الألغاز تنقصني بعد لأملأها هناك، فالطريق ما زال يحمل بعض الأمل لزيادة الوصل مع أحلام السفر.
ما الرؤى والأحلام والاستيهامات، التي اجتاحت مُخيّلتكم ورافقت رحلتكم صوب المغرب؟
كما ذكرت سابقاً، صورة الأصبغة في أسواق فاس، الإشاعات التي أسمعها من رفاقي عن الزحام في مدينة الدار البيضاء، الصبية الذين يقتادونك نحو الأسواق التي يتواجد فيها أقمشة القفطان وغيرها، كما في الحكايات القديمة لكن بصورة شعبية ومتلبسة بالفروقات الطبقية بصيغتها الحديثة، بين مفهوم السائح ومفهوم الشاب المحلي الذي يبحث عن لقمة عيشه في مكان روّج له سياحياً بشكل كبير؛ الموسيقى الصاخبة ذات الإيقاع المختلف التي باتت تربطني "بعربيتي "، إذ استطعت أن أعيش هذا المصطلح عبر اشتراكي في الفرق المغربية التي تقيم حفلات في مدينة تولوز.
الأغاني التي غنيتها معهم حين تدربت في كورال من الهواة، والتي هي مستوحاة أصلا من وادي الموسيقى الأندلسية، جعل الثقافية السمعية عبر تلك الأغنيات وعزفها وترديدها، حتى لو كان بشكل متواضع جدا بالنسبة لهاوية مثلي، نوعا من "الوصل للأندلس" وامتداداً سحريا يحملني فوق بساط خاص ضن الثقافة الغربية المحيطة، ومن ثم ليؤصل ويغني علاقتي بالبيئات والتراث عموماً.
شكّل المغرب حلقة هامّة ضمن مسار تحديث الثقافة العربيّة المعاصرة، لما ظلّ يلعبه من دورٍ فعّال في تقوية أواصر السؤال والصداقة والفكر مع المشرق العربي. من موقعكم البحثي/ الأدبي/ الفنّي، كيف ترون وتُقيّمون راهن الثقافة والفنون في مغرب اليوم؟
حتماً سأكون مقصرة في الإجابة بسبب واجبي البحثي للرد على هذا السؤال. قد أستطيع الإجابة بسبب قرب النصوص والأعمال الفنية والفكرية على مواقع التواصل الاجتماعي التي يشاركها الأصدقاء والعاملون في مجال الفن والأدب، من مفهومي قيد التكوين عن الأدب والفلسفة، وربما يكون ذلك بسبب حركة التأثر والنقل والترجمة مع الغرب الذي ما زلت أطرح الأسئلة باستمرار حول" شرعية وجودي الأدبية فيه. وبذا تكون الثقافة المغاربية عموما والمغربية خصوصا نوعا من الجسر غير المرئي نحو المرء ونقيضه بين عالم غربي متفتح على كافة أشكال الحريات والفردية، وعالم عربي إسلامي الطابع متفتح اتجاه علاقات حميمية أسرية قريبة. لذا الكلمة الشعرية التي تخرج من المغرب تعبّر برأيي عن هذا التضارب/التصالح المستمر والحيوي.
هل شعرتم يوماً بأنّ الثقافة المغربيّة، تُعدّ امتداداً عميقاً لباقي الثقافات الأخرى المُنتَجة بالعالم العربي، بحكم ذلك التمازج المُتوهّج الذي رافقها منذ سبعينيات القرن الـ 20؟
أميل لأن تكون جزءا عميقاً وظاهراً في آن يبني ويعطي ويأخذ، لو كانت امتداداً بشكل جاف لكان هذا ربما يعني بأن لا تأثر ولا تبادل. في الامتداد نوع من الابتعاد، وأنا لا أظن بوجود هذا النوع من الابتعاد، فنحن نقرأ لكتاب المغرب ولترجماتهم.
أميل لقول الشاعرة الصديقة وداد نبي في حوارها معك، "الثقافة المغربية تسير بخط متواز ومتداخل مع باقي الثقافات في العالم العربي".
ما مدى تأثير الإنتاج المغربيّ على خصوصيات ثقافتكم، فكراً وأدباً وفناً؟ وهل تعتقدون أنّ ملامح هذا التأثير، تبدو بارزة وبشكلٍ قويّ داخل ثقافتكم وفنونكم في الحقبة المعاصرة؟
لست متأكدة من هذا التأثير، ربما للمغرب في لاوعيي مفهومان: الأول هو الذي يتواجد في القصص، في الثقافة السياحية للغرب، في حكايات الشرق التي تتناوب أقطابها من بغداد لمراكش حتى الهند. يكفي أن ألفظ اسم مراكش حتى تخطر على بالي قصيدة حول الاسم. الدار البيضاء هي المدينة التي ظهرت في خلفية عدة أفلام أحبها ولذا شكلت خلفية صورية لأحلام كوّنتها تلك الأفلام. كان بعضها يفصح بأنه داخل المغرب وأخرى يتعمّد صانعوها بأن يجعلوا من بيئة المغرب أرضية تصوير وتصور لبلاد أو أزمان أخرى، المثال على الثانية فيلم "المصارع"، "عطيل"، "آلهة ورجال".
مثال على الأولى "كازابلانكا"، "بابل" و"الرجل الذي عرف أكثر من اللازم". كان آخر فيلم شاهدته ويدور في المغرب هو "العشاق فقط يبقون أحياء" ل جيم جارموش. تداخل فكرة الفيلم بين بيئة طنجة الغامضة وبيئة ديترويت الأمريكية الأشد غموضاً على طريقتها كان مفتاحاً سرياً لتفكيك فكرة الفيلم وفهمها ضمن هذا الاختلاف: كل شيء يبدو باردا بالنسبة لمصاص دم "أخلاقي" وتتحطم قواعده كل مرة تحصره الوحشة في مكان ما، فالقيام بفعل يبدو مروعاً كشرب الدماء البشرية قد يصير أقسى في مكان لا يسمح لك بممارسة أخلاقياتك التي ابتكرتَها عبر قرون وقرون من العيش اللامنتهي.
أعتقد، ولإجابتك على أحد أسئلتك السابقة، بأن من بين المؤثرات الفكرية القوية بالنسبة لي في ثوبها المغربي هي تلك الثقافة السينمائية التي يقيسها ويفصّلها كل مخرج وصانع سينما على هواه، وذلك بالإضافة للكتب والنصوص الشعرية التي وصلتني أو بحثتُ عنها.
ثاني مفهوم هو مرتبط باحتكاكي بالمغاربة هنا بشكل حياتي وفعلي، وهذا مختلف لكن له خصوصيته وحميميته وتناقضاته التي ما زلت أحاول أن أفهمها. ككاتبة أولاً وكامرأة عربية ثانياً.
لكنْ، حين تسمعون المغرب، ما أوّل شيء يتبادر إلى أذهانكم؟
الشاي الأخضر بالنعنع الطازج؛ الحمّام بزخرفاته التي تمد لك يداً لتدخل وتشعر بالاسترخاء والسفر في الماء والبخار والسخونة؛ التصميمات المعمارية الخاصة والمختلفة عن كل عمارة أخرى، هي عمارة إسلامية لكنها أكثر إشراقا أو امتصاصاً للضوء ومن ثم نثره، حسب رأيي، من العمارة الشامية؛ الحجر الأبيض لبيوت السكن بلون الرمل؛ الرقصات المغربية المختلفة عن الرقصات الشرقية، الإيقاعات الموسيقية المتشبعة بروح الأندلس، أكلتا الكسكس والطاجين، والذي يجب عليّ أن أتدكر في كل مرة اختلاف وصفاتهما بين الجزائر وتونس والمغرب؛ شعراء أصدقاء على الفيس بوك أحبهم أتمنى لقاءهم أو على الأقل إدامة الوصل معهم، وأصدقاء هنا حضرت حفلات أعراسهم وراقبت عن قرب عاداتهم وطقوسهم..
فيلم كازابلاكا، وجه أشقر بالأبيض والأسود وفراق يحمل معاني اللقاء حين يعطيك الفيلم حالة وجدانية تفكك حولك المفاهيم والمشاعر العادية؛ حرية التعبير التي تصارع لتجد لها مكاناً يليق بالمطالبين بها؛ مترجمون وكتّاب عظماء ما زلتُ أتوق لأكمل قراءاتهم وأعمالهم.
هل تعتقدون أنّ الصُوَر والرؤى والأحلام والتمثّلات، التي نُكوّنها عن بلد ما، تكون صادقة لحظة الاصطدام بالواقع الحقيقي وعاداته، وتقاليده وثقافته وفنونه؟
لا تكون صادقة، لكن هذا غير مهم طالما أن المخيلة والواقع مطلوبان حسب رأيي للتعرف على هوية مكان ما، وإلا ما فائدة كل أعمال بول أوستر عن نيويورك مثلاً إن لم تمنحنا خديعة صناعة المكان في تمازج بين هوانا وهوى الكاتب، وأن نشعر، ككتّاب، بامتلاك زمام المكان من بعيد. هذا سفر قد يغنيك مرات عن التنقل الفعلي، يجعلك تسافر عبر المخيلة ويا له من سفر! أصلاً حتى حين ننتقل إلى المكان، أنا شخصياً لا تتوقف مخيلتي عن التمدد لتطرح حكايا.
وهذا يساعد على تقبل صعوبات السفر أو عراقيله ومن ثم امتصاص سحره بشكل أمثل. لذا أنصح بعدم السفر بغرض السياحة فقط، بل للتأمل ومحاولة إيجاد حكايات جديدة، إلا إذا كان السفر لغرض بحثي، علمي أو غيره... وهذا بحد ذاته نوع من الإبحار أبعد من المحسوس ويعطيه بُعد المسافر الباحث عما يعنيه.
أحاول دوماً تحاشي تصديق الكليشهات التي تروج لها الصور والمواقع الخاصة بالسياحة التجارية، هذا يساعد كثيراً على إبقاء شخصيتك داخل السفر، ويخفف من أثر الصدمات. وربما كانت الزيارة الفعلية هي وسيلة للتخلص من الكليشيهات وتخفيف الفوضى التي تنتابنا في صورتنا عن المكان والمدن، لتصفو الرؤيا بعدها.
بعد كلّ هذه السنوات، ما الذي تبقّى في جسدكم من المغرب، ثقافياً وفنياً وفكريا؟
بما أنني لم أكن فيه سابقاً، فلم يتبقّ فعلياً شيء، لكن ثمة بذرات تشكلت بانتظار إمكانية الزيارة حقاً، كما أتمنى زيارة كل بلد لدي فيه أصدقاء وانطباعات. ربما داخلي بذرة نعنع أخضر، بذرة رمل من فيلم المريض الإنكليزي، بذرة قصيدة سأكتبها يوما عن هناك، أو من هناك.