زوم على المغرب - الشاعرة السورية وداد نبي لـLe360: كنت أفتح عيني في بيت جدتي على سجادة مغربية

الشاعرة السورية وداد نبي

الشاعرة السورية وداد نبي . DR

في 23/08/2022 على الساعة 16:08

فيديوعلى مدار سنوات طويلة، شكل المغرب بعمقه التاريخي محطة سياحية للعديد من الكتاب والفنانين، الذين زاروا المغرب وتمتعوا بخيراته وجماله، من أجل إقامة نوع من الطباق البصريّ بين الواقع والخيال.

في هذه الزاوية الأسبوعية الجديدة، يلتقي le360، بجملة من كبار الكتاب والشعراء والفنّانين والمخرجين من العالم العربيّ، ممن أُتيحت لهم الفرصة للزيارة والقراءة عن المغرب أو الإقامة فيه أو حتّى المرور عبره إلى أمكنةٍ أخرى، من أجل تقديم صورة جماليّة بانورامية خارجية عن البلد وعُمق عاداته وروعة تقاليده وحداثة ثقافته وجماليّات فنونه وما مارسه منذ سبعينيات القرن الـ 20 من سحرٍ على تفكيرهم وأجسادهم ومُتخيّلهم وجعلهم يحلمون ويتطلّعون أكثر إلى الالتحام بالواقع المغربيّ وتاريخه من أجل التفكير والكتابة والإبداع والابتكار.

إنّ الزاوية ليست مجرّد سفرٍ في الأمكنة والفضاءات والجغرافيا عموماً، وإنّما سفرٌ عميقٌ في سراديب الجسد وأحراش الذاكرة. سفرٌ ضاربٌ في عمق الثقافة والفنّ ودهشة السؤال. هنا يتحرّر العقل من صرامته الوجودية القهرية ويُطلق الجسد العنان أكثر لمُتخيّله ومشاعره وأحاسيسه في التعرّف على ثقافة الآخر وفنونه، حتّى يتمرّدان على صبغة العقل المنطقية ويُقدّمان معاً صورة ثقافيّة نوسطالجية عن أواصر الصداقة والحب التي انتسجت منذ منتصف القرن الـ 20 بين المغرب والمشرق.

الحلقة الـ 12 من هذه الزاوية الأسبوعية، مع الشاعرة والكاتبة السوريّة وداد نبي، أبرز وجوه الشعر المعاصر في سورية، وقد أجزم أنّها الأجمل كتابة على مُستوى توسيع حدود القصيدة واستنطاق سراديب الجسد والتعبير بخفّة وطلاقة، من خلال ما شهدته سورية في تاريخها القريب. لم تعمل وداد نبي في دواوينها الشعريّة على تصوير ميكانيكي للواقع السوري، بما يحبل به من مآزق وتصدّعات، وإنّما تركت كلّ شيءٍ يذوب في جسدها، بعدما رحلت إلى ألمانيا وأنتجت نصّاً شعرياً مُضمّخاً بالجُرح والألم. فقد خُيّل إليّ في تلك اللحظة المُبكّرة، التي تعرفت فيها على شعريّة وداد نبي، وكأنّها تكتب سرديّة شعريّة سوريّة معاصرة، إذْ يعثر القارئ داخل نصوصها على نمطٍ مُختلفٍ من الكتابة الشعريّة، التي تُحوّل تفاصيل صغيرة جداً من حياتنا إلى صُوَرٍ.

لم يتوقّف الأمر عند هذا، بل كانت وداد نبي بالنسبة لي، مدخلاً شعرياً للتعرّف على نماذج ونصوص لكلّ من: ميس الريم قرفول ومحمّد ديبو وعماد الدين موسى وجوان تتر وغيرهم من الكُتاب السوريين الجدد الذين تركوا بمقالاتهم ونصوصهم وكتبهم في جسدي وشماً لا يزول. هكذا توطّدت علاقة الصداقة والمحبّة من بعيد معهم، حتّى غدت الكتابة بالنسبة لي عن الثقافة السوريّة المعاصرة مطلباً وجودياً منه أستمد فعل الكتابة والتفكير، وكأنّ هؤلاء الكُتّاب / الأصدقاء، قد ظلّلوا بجُرحهم وشقائهم جسدي ومُخيّلتي من خلال أشعار وداد نبي.

بداية، ما الأسباب الوجدانية والمعرفية، التي ساهمت في سيرة وتشكيل وعيكم وسفركم/حذف سفركم صوب المغرب؟

المغرب كاسم مكان حاضر في ذاكرتي طفولتي الأولى في قريتي الكردية النائية في الشمال السوري، هناك حيث بدايات تشكل المخيلة والوعي الجمالي، كنت افتح عيني في بيت جدتي على سجادة معلقة على الجدار، جميلة ومزخرفة بنقوشات بهية ملونة، كانت نساء العائلة يدعونها السجادة المغربية. وبالقرب من المرآة الكبيرة لوحة امرأة جميلة يطلقون عليها اسم فاطمة المغربية، كانت صورتها معلقة في قسم كبير من بيوت تلك القرى الكردية القابعة في سهل سروج.

كان خيالي يسرح مع لوحة المرأة الجميلة ونقوشات السجادة صوب ذلك المكان الساحر البعيد الذي فيه نساء جميلات وألوان بديعة تشبه تلك الألوان التي تستخدمها جدتي أثناء نسج سجادتها على النول اليدوي. بعد مرور سنوات عرفت ان لوحة المرأة ليست من المغرب، تبين انه لديها قصص عديدة، البعض يعتقد انها امرأة كردية كجي فروش، وهناك من يعتقد انها تركمانية، وفي قرانا كانت فاطمة المغربية.

حين كبرت قليلا وفي سنوات المراهقة قرأت ألف ليلة وليلة، فعاد المغرب مرة أخرى في ذاكراتي لكن مضاءاً هذه المرة بالحكايات والأساطير، وفي الجامعة بدأت الفلسفة والثقافة والأدب ومفكري المغرب رويداً رويداً يضيئون جوانبها العميقة أكثر في مخيلتي ووعي، كل ذلك أخذني صوبها دون أن أزورها. لكن البداية بدأت من لوحة لامرأة جميلة وسجادة ملونة معلقة في بيت جدتي الكردية. أجل حين يذكر المغرب تحضر المخيلة بكل سحرها الأول.

هل يُمكن أنْ نستلهم هنا عبارة محمود درويش المُدهشة: الطريق إلى البيت أجمل من الوصول إليه. كيف كان طريقكم إلى المغرب؟

بما انني حتى هذا اليوم لم أزر مغرب المكان، فإنني لا أميل لمقولة درويش، لدي حدس ان سحر مغرب المكاني والإنساني سوف يفوق المتخيل الموجود عنها، الصورة الذهنية أحياناً تكون ناقصة ومحدودة أمام جماليات المحسوس، وهذا ما اعتقد انني سوف اكتشفه حين اذهب صوب المغرب.

ما الرؤى والأحلام والاستيهامات، التي اجتاحت مُخيّلتكم ورافقت رحلتكم صوب المغرب؟

إذا ذهبتُ للمغرب ستكون لي عيون ابن بطوطة وقدماه، ستقودني قفاطين جدتي ونساء العائلة الملونة وإكسسواراتهن الفضية والذهبية الي هناك، ستقودني السجادة الملونة التي كانت معلقة ببيت جدتي، ستقودني كتب محمد عابد الجابري والعروي التي تحتل رفاً في مكتبة بيتنا، وكذلك روايات محمد شكري، مذكرات جان جنيه عن هذا البلد، لوحة نافذة في طنجة لهنري ماتيس، وكتابات الأصدقاء والصديقات الكتاب المغاربة مثل: مثل سكينة حبيب الله، محمد بن ميلود، محمد مقصيدي، عائشة بلحاج، عبد اللطيف الوراري، عبد الرحيم الخصار. علية بوزيدي، رشيد وحتي، أشرف الحساني. وأسماء أخرى عديدة لا مجال لذكرها.

وربما ترافقني أيضاً لوحة "عرس يهودي في طنجة" للفنان أوجين دو لاكروا.

شكّل المغرب حلقة هامّة ضمن مسار تحديث الثقافة العربيّة المعاصرة، لما ظلّ يلعبه من دورٍ فعّال في تقوية أواصر السؤال والصداقة والفكر مع المشرق العربي. من موقعكم البحثي/ الأدبي/ الفنّي، كيف ترون وتُقيّمون راهن الثقافة والفنون في مغرب اليوم؟

أولاً مجرد وجود أسماء مكرسة في الفكر مثل محمد عابد الجابري، وعبد الله العروي، والكاتبة والباحثة فاطمة المرنيسي وفي الأدب عبد الفتاح كيليطو ومحمد شكري، عبد اللطيف اللعبي، الطاهر بن جلون. هذا لوحده شكل واقعاً ثقافياً خصباً. وكذلك أجد من خلال متابعتي للكتاب والمثقفين المغاربة على وسائل التواصل الاجتماعي، ان واقع الثقافة والفنون يتطور بقوة خارج الأطر الكلاسيكية المعهودة، وبعيداً عن المؤسسات الرسمية المغربية، هناك حركة كبيرة في النشر والترجمات ما يبدو لي من خلال متابعتي لهم، لكن ربما يعاني الواقع الثقافي المغربي ما يعانيه الواقع الثقافي المشرقي، فساد المؤسسات الثقافية وضعف وتمويل في هيكليات الرسمية المنتجة للفنون بشكل عام.

هل شعرتم يوماً بأنّ الثقافة المغربيّة، تُعدّ امتداداً عميقاً لباقي الثقافات الأخرى المُنتَجة بالعالم العربي، بحكم ذلك التمازج المُتوهّج الذي رافقها منذ سبعينيات القرن الـ 20؟

في الواقع لا أرى انها امتداد، بل تسير بخط متواز ومتداخل مع باقي الثقافات في العالم العربي، الثقافة المغربية ليست تابعة بمقدار ماهي شريكة وصديقة وند.

ما مدى تأثير الإنتاج المغربيّ على خصوصيات ثقافتكم، فكراً وأدباً وفناً؟ وهل تعتقدون أنّ ملامح هذا التأثير، تبدو بارزة وبشكلٍ قويّ داخل ثقافتكم وفنونكم في الحقبة المعاصرة؟

بالنسبة لي كقارئة أولاً، كل الثقافات سواء كانت ثقافة غربية أو مشرقية/ مغربية، سواء كان الأدب أو الفكر أو الفنون كان لها تأثير على تشكيل هويتي الشخصية والفكرية ورؤيتي الجمالية. وتأثيرات كل هذه التيارات تتلاقي في نقطة ما، وتشكل ما ندعوه الوعي.

لذا بالطبع يدخل تأثير الإنتاج المغربي سواء الفكري أو الجمالي والعمراني بتشكيل ذائقتي أيضاً، على سبيل المثال في غرفة مكتبي، مصباح مغربي جميل أهدتني إياه صديقتي الألمانية المعجبة حد الغرام بالمغرب. وهناك صحن خزف مغربي في مطبخي، بنقوشاته الملونة تعيدني لأسواق مراكش وفاس التي شاهدت صورها مراراً وتكراً كنماذج جمالية، وفي مكتبة بيتنا عشرات الكتب الفكرية والأدبية لكتاب ومفكرين مغاربة. فالأثر موجود، بل وملموس ومحسوس.

لكنْ، حين تسمعون المغرب، ما أوّل شيء يتبادر إلى أذهانكم؟

العمارة المغربية. أو المورسكية تحديداً، التي هي مزيج من تيارات عمرانية مختلفة وعديدة، حيث تجد تركيز على الجوانب الجمالية وليس فقط العمل على المظهر الوظيفي للبناء. فن الزليج والأقواس والمقرنصات.

حين كنت في باريس مع زوجي، زرنا مسجد باريس الكبير، وفور ولوجنا للباب الخشبي المزخرف بالفن الإسلامي، شعرت انني في المغرب، البلاد التي لم أزرها إلا في الكتب والصور واللوحات. حيث عمارة المسجد مستوحاة من جامع القرويين في فاس، فمن قاموا بالزخرفة كانوا حرفيين مغاربة.

أجل قلت للكثير من الأصدقاء والصديقات بعد أن عدت من باريس، انني في حي الدائرة الخامسة، في قلب الحي اللاتيني الجميل زرت المغرب. في المسجد وملحقاته من حمام مغربي ومطعم وصالون للشاي وغرفة للحلويات الشرقية يغلب الطابع الاندلسي المغربي على الهندسة المعمارية، وخاصة اللون الأزرق والأخضر والحمرة والألوان الترابية بكل تنويعاتها، حين جلسنا في الساحة الملونة والمزخرفة بالزليج تحت شجرة التين وسمعنا خليط اللغات، احتلت اللهجة المغربية فضاء المكان لوهلة وشعرت اننا جالسان في إحدى ساحات فاس أو مراكش أو طنجة المدن التي قرأت عنها ورأيتها في الصور واللوحات، كانت هناك لوهلة في باريس.

هل تعتقدون أنّ الصُوَر والرؤى والأحلام والتمثّلات، التي نُكوّنها عن بلد ما، تكون صادقة لحظة الاصطدام بالواقع الحقيقي وعاداته، وتقاليده وثقافته وفنونه؟

ألا تر معي ان المخيلة هي صورة خادعة أو مشتهاة عن الواقع، بل أحياناً تشبه الستارة التي تخفي عنك وضوح الرؤية. ولكن رغم هذه الصورة الخادعة نحن نحتاج إليها لتشكيل الصورة النهائية لأي بلد أو موضوع. لأن الصورة الكاملة لا تكتمل بدون المخيلة المسبقة والواقع، يندمج كلاهما معاً، المتخيل مع المحسوس، المشتهى مع المستفز، ويخلقان الانطباع النهائي، الصورة الكاملة بكل أبعادها.

كما انه ليس من المطلوب ان تكون كذلك. الصور والتخيلات المسبقة هي طريقنا ودافعنا لاستكشاف أي مكان وثقافة جديدة، وحين نبدأ مغامرة التعرف نتعثر بالكثير، وأرى ان كل ما هو ليس ضمن مخيلتنا المسبقة هو إضافة جديدة وممتعة لمخيلتنا.

بعد كلّ هذه السنوات، ما الذي تبقّى في جسدكم من المغرب، ثقافياً وفنياً وفكريا؟

كتب الفكر والثقافة القادمة من المغرب، تحتل مكاناً لها في مكتبة بيتنا البرليني، وتشاركنا أنا وشريكي الأحاديث عن الحداثة والتراث والجمال. لكنني لازلت متعطشة لرؤية المغرب المكان في الواقع، بسجاجيده الملونة كما كانت في بيت جدتي ومدنه وعمارته الساحرة كما نسخته المصغرة في مسجد باريس الكبير.

تحرير من طرف أشرف الحساني
في 23/08/2022 على الساعة 16:08