وذلك لكونها تُعتبر اليوم أكبر المؤسسات الفوتوغرافية داخل لبنان، ممن عملت على حفظ الذاكرة البصرية اللبنانية، أمام سيل كبير من الصُوَر، باتت تُمطرنا بها شبكات التواصل الاجتماعي، والتي لا تُؤكد، سوى حقيقة واحدة مفادُها: أننا نعيش في زمن الصورة بامتياز بكل تفاصيله، فلا شيء إلاّ الصُوَر، حتى أضحى الإنسان كائناً أيقونياً، بحيث أنّ وجوده بات صورة أكثر منه كونه جسداً واعياً، ومع ذلك ماتزال المؤسّسات العربيّة داخل البلدان المغاربية، تُمارس سلفيتها تجاه الفنون البصريّة عامّة والفنّ الفوتوغرافي على الخصوص.
هذا مع العلم أنّ لبنان، يُعتبر أكثر البلدان العربيّة، التي اهتمت بالصورة الفوتوغرافية ومُتخيّلها الفني من خلال مؤسّسات أرشيفٍ ومعارض فنّية وشراكات كثيرةٍ مع مؤسّسات ومتاحف غربية، تحتفظ بها الذاكرة البصريّة، بل إنها غدت مرجعاً للكثير من الباحثين العرب، ممن يُنقّبون داخل الفنّ الفوتوغرافي، بوصفه مُختبراً للحداثة الفنية، بحكم تقاطعاته وتلاقيه مع الفنّ المعاصر، والذي تجد فيه الفوتوغرافيا المعاصرة نفسها في احتكاك معه، وهو ما يزيد من صعوبة المعرفة الفوتوغرافية في تجربة اللبناني أكرم الزعتري، الذي يُعد أحد أبرز الأسماء العربيّة، التي مثلت هذا المنزع الفني المُركب، ما يُفسر سر انجذابه للاشتغال في خضم مواطن مُتعدّدة بين الفوتوغرافيا والفيديو والأرشيف، مُحاولاً تغذية ذائقته الجمالية بهذه الوساط الفنية، التي تتشكّل وتختمر في جسده كمشروعٍ فنيّ مُتكامل، فتنسرب من بين أصابعه على شكل صُوَرٍ وتوليفاتٍ فنّية مُركبة ومُتنوّعة، تعمل على استكناه المكبوت اليومي داخل الاجتماع اللبناني، عاملاً على تطويعه عبر صورٍ فوتوغرافية دالّة وتُعبّر عن الألم الذي نَخَرَ المجتمع اللبناني منذ الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) إلى الآن وجرحها الذي لم يندمل بعد.
تتخذ موضوعة "الحرب الأهلية اللبنانية" في تجربة أكرم الزعتري، تجليات مُختلفة عن تلك التي سبقتها أو رافقتها، بطريقة تقريرية يصعب الحديث عن جماليّات الصورة داخل مشروعها، الذي لم يخرج عن الهاجس التوثيقي لتلك الحرب البشعة، لكن عند أكرم الزعتري، تتجاوز الكاميرا في طريقة قبضها على ملامح العالم من هذا الأسلوب، الذي يروم إلى جعل الكاميرا مُلتصقة بمسام الحرب ومأساتها داخل الاجتماع اللبناني، لأنّ فعل الفوتوغرافيا لديه، يتجاوز المُباشرة والتصوير الميكانيكي، صوب فضاءٍ فوتوغرافيّ مُركب، يمزج بين التصوير والفكر، هذا الأخير، يُعتبر عملية لاحقة على التصوير، بحيث أنّه يدخل في عملية تماهٍ وتحاور بين التقنية والفكر لمُحاولة إعادة بناء الأرشيف (الصُوَر المُلتقطة) من كونه مجرد صُوَر إلى أعمال فوتوغرافية تدخل ضمن مشروع فني وجمالي.
وهذه العملية الثانية التي تركتز على البناء، هي أقوى اللحظات في تجربة أكرم الزعتري، فهي أشبه بمخاض الولادة، الذي يعمل من خلاله الزعتري على تتبع الصورة منذ بداياتها الميكانيكية إلى أنْ تًصبح عملاً فنياً وجمالياً، ينتقل من تصوير الحرب إلى التفكير فيها وبها من خلال صورة والقبض عن معانيها ورصد خيباتها في نفوس الناس وأبعادها السياسية والاجتماعية على الاجتماع اللبناني في ذلك الإبان.
وبالتالي، فإنّ هذا المنزع الجمالي الذي انطبعت به تجربة الفنّان، تجعل منه اليوم، أبرز فوتوغرافيّين في المنطقة العربيّة، ممن تهجس أعماله بمفهوم "المشروع" الذي يروم إلى توثيق الذاكرة البصرية اللبنانية ومساءلتها عبر وسائط فنية مختلفة، تبدأ بالفوتوغرافيا وتنتهي بفنّ الفيديو والسينما.
السمة البارزة في أعمال أكرم الزعتري، هو قدرته على ممارسة النقد من داخل أعماله الفوتوغرافية، بحكم تعامله المُختلف مع المادة وقدرته على التقاط تفاصيلٍ صغيرةٍ من حياة الناس والحفر في بنية اللامفكّر فيه من حياتهم وأجسادهم المُتعبة داخل دوامة الحرب الوجودية والقبض عن هذا العذاب اللامرئي وتحويله إلى صورةٍ فوتوغرافية، تقرأ بشاعة الحرب على ضوء مُستقبل مُبهم، وترصد آلام الوطن أمام التغيّرات الجيوسياسية، التي تكتسح المنطقة العربيّة، وتجعلها حلبة صراعٍ دولي، تظلّ الأوطان الخاسر الأكبر من هذه المعادلة العنيفة في فوضاها.
ففي أعمال أكرم الزعتري هنالك الكثير من النقد المُبطّن في فوتوغرافيته عن بشاعة الحرب الأهلية اللبنانية وتأثيرها على سلوكات الناس ويوميّاتهم الاجتماعية وتطلعاتهم التحرّرية منذ ذلك الوقت إلى حدود الآن. إنّ هذا اللامفكّر فيه من حياة الناس وأواطنها، هو ما يتستر عنه الكثير من الفوتوغرافيين العرب، الذين تظلّ أعمالهم قاصرة، واقفة أمام سياج الحكي وكلام الخشب القاصر عن إنتاج خطاب فني وفوتوغرافي، ينتقد هذه اللحظات العسيرة التي تمر منها البدان العربيّة، أمام مكر السلطة وعنفها وجبروتها، في محاولة استكناه جوهر الحقائق اللامفكّر فيها ومسرحتها داخل إطار فنيّ، يستقصي مخزون الحرب وآلامها.
بهذه الطريقة يكون أكرم الزعتري، قد مَنَحَ حياة ثانية لهذه اللحظة داخل سيرة المرئي، لتظّل موضوع سجال نقدي ومساءلة دائمة لطبيعة السلطة، خاصّة وأنّ فوتوغرافيا الزعتري عَالمة ولها قدرة تتأتى من نباهة الرجل في مُحاولة خلق فوتوغرافيا مُغايرة، تعتمد على وسائط مُتعدّدة لتوثيق اللحظة، وجعلها عملية تدخل في صلب "التفكير بالصورة" ومُتخيّلها عِوَضَ "التفكير في الصورة"، بحيث أنّ المنزع المنهجي المُغاير في تجربته، يُتيح لها إمكانية قلب المفاهيم الفلسفية الدولوزية، وجعل الصورة تُفكّر وتُمنطق سوسيولوجياً الحرب ومأساتها داخل عملية تركيبية بين الفكر والآلة الفوتوغرافية والوسائط المُتعدّدة، التي جعلت تجربة أكرم الزعتري على مدار سنوات من أرقى التجارب الفوتوغرافية داخل البلاد العربيّة، لأنّ تجربته اخترقت الحدود والقوالب التنميطية الفوتوغرافية، التي رسمتها الصورة الحديثة المُؤسّسة على التوثيق والأرشفة، صوب ثورة الأشكال والأنساق الفنية وتمازجها داخل وحدة فوتوغرافية مُركبة، تجد زخمها الفني والجمالي والفكري داخل الفنّ المعاصر بكل ألوانه البصريّة.