أشرف الحساني: دنيا بوطازوت.. كلّ هذه المواهب التلفزيونية الخفيّة!

أشرف الحساني ـ ناقد فنّي

أشرف الحساني ـ ناقد فنّي . DR

في 02/06/2022 على الساعة 16:00

لا شكّ أنّه من فرط الهشاشة الفنّية، التي ألمّت بالوسط الفنّي المغربيّ في السنوات الأخيرة، لم يعُد المُشاهد يقوى على تخيّل ما يراه على التلفزيون العمومي.

إذْ لا غرابة أنْ تتوالى على المشاهد المُفاجآت من حيث لا يدري، ذلك أنّه غدا يصطدم بشكلٍ يومي بركامٍ من الأفلام التلفزيونية والمسلسلات الدرامية والسيتكومات الهزلية، دون وجود أيّ وسيطٍ نقديّ يُرافق سيرة هذا الإنتاج الفنّي ويكشف خيباته وزلاّته وأعطابه. فالدور الذي كان يلعبه الناقد الفنّي في تسعينيات القرن المنصرم، قد تلاشى وتبخّر في الهواء، تاركاً العملية النقدية لأشباح السوشيال ميديا. فهذه الوظيفة أضحى يلعبها مُشاهدٌ، لا يتوفّر على أدنى شروط المُعالجة الفنّية والنظريةٍ الجماليّة وسياقاتها التاريخيّة، فنجد أنفسنا أمام "كتابة" مُستسهلة، تُلامس سطح الأعمال الدرامية وطابوهاتها، بما تخلقه من جدلٍ وقلقٍ في نفوس الناس، دون النفاذ إلى جوهر الصُوَر التلفزيونية بمُختلف أشكالها وأنماطها، مُتناسية كلّ ما له علاقة بأسئلة المُتخيّل وفلسفة الصورة وميكانيزماتها.

غير أنّ الارتباك الذي تعرفه الكتابة عن الصورة الدرامية، لا علاقة له بالمؤسّسات والنقّاد فقط، وإنّما بمفهوم النقد عينه، الذي ظلّت الثقافة العربيّة الحديثة تُبلوره بشكل هشّ ومُتصدّع، لما يفتقر إليه من موضوعية وتجديد وتجدّد. ففي الوقت الذي تجلي فيه العديد من المفاهيم والنظريات والأفكار داخل الثقافة الغربيّة، يكون النقد داخل المنطقة العربيّة، يحتفل بميلاد بعض المفاهيم ونجاعتها في تفكيك بعض إشكالات الثقافة البصريّة. فهذا التأخّر التاريخي في استيعاب المفاهيم الجديدة وتحوّلاتها أثّر بشكلٍ قويّ على العملية النقدية وجعلها متصدّعة في أساسها، لأنّها تنطلق من مقاربات تقليدية، تظلّ سادرة أمام العمل الدرامي، دون أنْ تُمكّنها تلك المفاهيم والأطاريح من تفكيك ميكانيزمات الصُوَر ودلالاتها الرمزيّة.

من ثمّ، فإنّ الجدل الذي رافق سيرة الدراما في المغرب في الأسابيع الأخيرة، لا علاقة له بجوهر الأعمال الفنّية وقوّتها، وإنّما تتحكّم فيه نوازعٌ سياسيّة أو جسدية أو دينية، لأنّ مُجمل الأعمال الدرامية، غير مُؤثّرة في ذاكرة الاجتماع المغربي وراهنه، وأنّ ما شهده التلفزيون خلال شهر رمضان، يبقى مجرّد فقاعاتٍ عابرة وجدلٍ شعبويّ فارغ، لكونه غير مُؤسّس على أيّ نظريةٍ جماليّة مُدجّجة مُسبقاً بمعرفةٍ فكريّة وفلسفية. والحقيقة أنّ تراجع دور الناقد من الحياة الفنّية، يكاد يكون عَالمياً، خاصّة وأنّ ثقافة الترفيه والاستهلاك، تفرضان نمطاً جديداً في عملية تلقّي العمل الدرامي. فهذه العملية، تُهمّش الناقد وتنفيه من المجال التداولي لصناعة الصُوَر والرموز، لا باعتباره مُروّجاً للأعمال الدرامية أو مُبرّراً لأخطائها أو حتّى مُسوّغاً لأفكارها، بقدر ما يظلّ طرفاً هامّاً في صناعة مفهوم الفُرجة الدرامية في ذهن المُشاهد.

فالناقد الحقيقي، يستطيع بفطنته البصريّة وثقافته الجماليّة وحدسه الفنّي، أنْ ينسج علاقة قويّة مع العمل الدرامي، ويعمل على مُساءلة لا مُفكّره، انطلاقاً من تفكيك ميكانيزماته وبُناه الداخلية. إنّ الناقد ليس مجرّد مُروّج للأعمال الدرامية، بل شخصٌ يمتلك من المعرفة الجماليّة، ما يُؤهّله ليكون في موقف قوّة تجاه المسلسلات والأفلام، وذلك من خلال تقييم عملية التناظر البصريّ وتمثّلات المتن الدرامي في مُتخيّل الناس وذاكرتهم، نظراً لكون الكتابة التقريرية عن الدراما المغربيّة، تظلّ ذات مُنطلقاتٍ فكريّة بامتياز، لأنّ العمل الدرامي، مُكوّن من آلاف الصُوَر المُستلّة من طبيعة الحياة اليوميّة.

وبالتالي، فإنّ الصورة حين تعمد إلى التقاط بعض من نتوءاتٍ الواقع، فإنّها تعمل جاهدة على بلورة حقيقةٍ أنطولوجية. على هذا الأساس، تعمل المحطّات التلفزيونية العَالمية، على تهميش الناقد داخل مُؤسّساتها ونفيه خارج التقييم الجمالي، الذي يغدو مُحتكَراً من لدن وسائل التواصل الاجتماعي كنوعٍ من تكريس البديهيات السطحية المُميتة للفعل النقدي وأيضاً كتهشيمٍ للذائقة الجماليّة الجمعية واستبدالها بسُلطة النموذج الجمالي الواحد، الذي يجعل من أجساد الناس مُتشابهة الأذواق وأشبه بذواتٍ موحّدة مُستنسخة بشكلٍ لا نهائي، ولا تخلق أيّ دهشةِ أو اختلاف تجاه العمل الدرامي.

نستحضر هذه الأسئلة الفكريّة، إلاّ من أجل توضيح هذا التصدّع الذي أصاب في بنيته ووجوده وتجلّياته الكتابة النقدية عن المسلسلات الدرامية والأفلام التلفزيونية، والذي ساهم في تهميش الناقد، حتّى أضحى غريباً داخل المجال الفنّي في المغرب، ما جعل الكثير من الظواهر تقفز إلى سطح المَشهد التلفزيوني، دون إحداث أيّ جدلٍ فكريّ حول نجاعتها من عدمها في إحداثٍ أيّ تغيير فنّي يُذكر. إنّ الرغبة في التجديد تبدو واضحة المعالم والرؤى، سواء في نيّة تجديد العمل أو من ناحية التصوير وتغيير الاكسيسوارات التقليدية والخروج بالكاميرا من مُنعرجات التقليد وثقافة الصالونات الدرامية الضيّقة، صوب فضاءاتٍ عمومية أكثر تعبيراً عن الإنسان وتصدّعاته الوجدانية اليوميّة.

ومن أهمّ هذه الظواهر التي اكتسحت الوسط التلفزيوني، تتمثّل في هجرة عدد من الممثّلات المغربيّات إلى مجال التنشيط التلفزيوني، وكأنّ في هذا العبور الفنّي، يكمن تجديدهم وبعثهم وخلاصهم. بالرغم من أنّ عبوراً كهذا، لا يُمكن للناقد الفنّي أنْ يعتبره "بريئاً"، بل يظلّ يُضمر في طيّاته جملة من الأسئلة حول أسباب هذا الانتقال من التمثيل التلفزيوني، صوب مجال التنشيط الفنّي، وأحياناً بدون خبرةٍ أو دراسة أكاديميّة، ما يجعل العملية هشّة وتفتقر إلى عامل الجودة والابتكار، كما حدث قبل أيام مع الممثلة التلفزيونية المغربيّة دنيا بوطازوت، خلال تقديمها للبرنامج التلفزيوني "لالة العروسة"(2022) في دورته الجديدة، حيث بدا الوهن والضعف في طريقة التقديم وفهم قواعد المهنة، والأكثر من ذلك تفاجئ الكثير من الناس من وجود بوطازوت على بلاتوهات التصوير متسائلين عن الأسباب الحقيقية، التي جعلت بطلة "لكوبل" تُفكّر في الانتقال إلى ممارسة التنشيط الفنّي، علماً أنّ تحوّلات الزمن المعاصر، تُبيّن لنا وبشكلٍ واضحٍ، أنّ لكل مجالٍ فنّي تخصّصه الجمالي وقواعده المهنية، التي تفرض مُعاينة دائمة وقُدرة كبيرة على التركيز، من أجل تحقيق مفهوم الابداع، الذي يُعدّ أوّل سمةٍ جماليّة ينطبع بها العمل الفنّي.

إنّ اختيار دنيا بوطازوت أو قبلها فاطمة خير، كمُمثّلات مغربيّات يُقدّمن برنامج "لالة العروسة" وغيرهم من البرامج الثقافيّة والفنّية والاجتماعية، لم يكُن مُوفّقاً بالمرّة، ولا يبدو صحياً مُستقبلاً للتلفزيون العمومي، من أجل إمكانية خلق واجتراح وصناعة حداثة بصريّة جديدةٍ تُخرجه من الجمود والتدوير والاجترار. لذلك فإنّ تقديم برنامج ليس عملية سهلة كما قد يُظّن، فإلى جانب معرفة المُقدّم بخفايا الأداء وقُدرته على ارتجالٍ فنّي، عبر مراحل متقطّعة من التصوير، لا يجعل المقدّم ناجحاً في أداء مُهمّته، ونفس الأمر، ينطبق على فنّ التمثيل. لم نستمتع بتقديم دنيا بوطازوت في برنامج "لالة العروسة" ولم نرى أيّ موهبةٍ أخرى، كما قد يُروّج لذلك بعد سنوات. فالتقديم كان بسيطاً ولا يُقدّم أيّ جديدٍ يستحقّ الانتباه.

لا تهمّنا هنا دنيا بوطازوت، إلاّ من خلال سؤال فنّي مؤرق، يتمثّل في الأسباب التي تجعل من ممثلةٍ مغربيّة ناجحة، تُفكّر في أنْ تُصبح منشّطة تلفزيونية؟ سيما وأنّ الفنّانة دنيا بوطازوت، قد حقّقت من خلال جملة أعمالها الفنّية في السنوات الأخيرة، مكانة فنّية مُعتبرة في ذاكرة التلفزيون المغربيّ، وغدت تتنزّل منزلة هامّة في متخيّل الناس ووجدانهم ومَشاغلهم اليوميّة، بعد سلسلة أعمالٍ تلفزيونية ناجحةٍ، قدّمت فيها بوطازوت أداء مُبهراً للعديد من الشخصيات الواقعيّة المُتأرجحة بين الكوميديا والتراجيديا.

منذ الإعلان عن اختيار دنيا بوطازوت في كواليس تصوير الحلقات الأولى من البرنامج، تأكّد أنّ الأمر، ليس له علاقة بظاهرة تثمين بروفايل فنّي لعددٍ من ممثلات أو مخرجات أو مغنّيات، صوب التنشيط الإعلامي التلفزيوني، بل باستغلال مفهوم الصورة / الأيقونة واللّعب على أوتارها بالنسبة للمُشاهد، وذلك من خلال شحذ مُخيّلة المُشاهد عن طريق هذه الوجوه الأيقونية المُكرّسة تمثيلاً أو غناءً. فالناس تتعامل مع البرنامج، باعتباره مسلسلاً درامياً تُقدّمه وجوهٌ مألوفة بالنسبة لها، لأنّ المُشاهد متعوّد دوماً عليها مُشاهدة أعمال الفنّية ونسج علاقة قويّة قوامها الشغف والحبّ والاعجاب.

إنّ ما نُؤكّد عليه في هذه الفُسحة النقديّة، أنّ هذه الظواهر، ستظلّ تتكاثر بقوّة وبشكلٍ هستيري على سطح التلفزيون، ما دام أنّ الناقد الفنّي مُغيّباً وبعيداً عن الصناعة التلفزيونية وصُوَرها المُختلفة. على الرغم من أنّه لم يتم فتح أيّ ملفٍ فنّي يسائل جوهر هذه الظاهرة، التي غدت مُكرّسة وتتزايد شهرياً وباستمرار، دون طرح أيّ سؤالٍ يتّصل بهذه الظاهرة وتحوّلاتها، التي بدأت تتكاثر منذ بداية الألفية الثالثة، لحظة إعادة تأهيل التلفزيون العمومي وظهور برامج جديدةٍ تُعنى بالشأن الفنّي المغربيّ. على هذا الأساس، فإنّ غياب الناقد الفنّي المُتخصّص في الشأن الدرامي داخل المغرب، فاقم من سُلطة هذه الظاهرة، في وقتٍ ينبغي فيه على الناقد أنْ يكون أشبه بـ"الشرطي" الذي يقف دائماً في وسط الطريق ويُنظّم مجال الإبداع ويُرمّم فيزيونوميّة الإنتاج وأنماط الصور، عاملاً على تشذيب ذاكرتها وراهنها، بما تنحته من صُوَر أو من خلال ما قد يتسرّب إليها من مُمارسات لا فنّية.

تحرير من طرف أشرف الحساني
في 02/06/2022 على الساعة 16:00

مرحبا بكم في فضاء التعليق

نريد مساحة للنقاش والتبادل والحوار. من أجل تحسين جودة التبادلات بموجب مقالاتنا، بالإضافة إلى تجربة مساهمتك، ندعوك لمراجعة قواعد الاستخدام الخاصة بنا.

اقرأ ميثاقنا

تعليقاتكم

0/800