على مدار سنواتٍ طويلة، شكّل المغرب بعُمقه التاريخي وتنوّعه الثقافي وزخمه الفنّي، محطّة سياحية للعديد من الكتاب والشعراء والفنّانين والفوتوغرافيين والمخرجين، الذين زاروا المغرب وتمتّعوا بخيراته وعاينوا ذاكرته وجماله، من خلال عددٍ من المُدن التاريخيّة، التي أقاموا فيها من أجل إقامة نوعٍ من الطباق البصريّ بين الواقع والخيال.
إنّ الزاوية ليست مجرّد سفرٍ في الأمكنة والفضاءات والجغرافيا عموماً، وإنّما سفرٌ عميقٌ في سراديب الجسد وأحراش الذاكرة. سفرٌ ضاربٌ في عمق الثقافة والفنّ ودهشة السؤال. هنا يتحرّر العقل من صرامته الوجودية القهرية ويُطلق الجسد العنان أكثر لمُتخيّله ومشاعره وأحاسيسه في التعرّف على ثقافة الآخر وفنونه، حتّى يتمرّدان على صبغة العقل المنطقية ويُقدّمان معاً صورة ثقافيّة نوسطالجية عن أواصر الصداقة والحب التي انتسجت منذ منتصف القرن الـ 20 بين المغرب والمشرق.
الحلقة الثانية من هذه الزاوية الأسبوعية، مع الروائي شاكر الأنباري، وهو كاتب وروائي وقاص من العراق، بحيث لا تستقيم مقاربة السرد العراقي المعاصر، بمنأى الحديث عن كتابات شاكر الأنباري، لكونه من أبرز المثقّفين العراقيين، الذين راكموا متناً أدبياً مختلفاً في السنوات الأخيرة وطوّعوا ذائقتهم الإبداعية، صوب قوالب فنّية مُتباينة وأجناسٍ أدبيّة مُختلفة تتّصل بالقصة والرواية.
بداية، ما الأسباب الوجدانية والمعرفية، التي ساهمت في سيرة وتشكيل وعيكم وسفركم صوب المغرب؟
في البدء كانت الأسماء، طنجة، ومراكش، والدار البيضاء، وسبتة ومليلة، وكنا ندرس ذلك في جغرافيا البلدان، وقبلها ممالك المرابطين والموحدين وكل ذلك التاريخ الحافل المرتبط بالأندلس، ومضيق جبل طارق بن زياد. وفي النضوج الثقافي جاءت أسماء قرأناها وعشنا مع شعرها ونثرها، الطاهر بن جلون ومحمد شكري وعبد الفتاح كليطو وياسين عدنان برائعته هوت ماروك وشعره. عبد الله العروي ومحمد بنيس ومئات الكتاب والفنانين والمسرحيين المغاربة، إضافة إلى ما كتبه الإسباني خوان غويتسولو عن ساحة الفنا، وقد قرأت كتابته تلك منذ ثلاثين سنة عن مراكش.
هل يُمكن أنْ نستلهم هنا عبارة محمود درويش المُدهشة: الطريق إلى البيت أجمل من الوصول إ ليه. كيف كان طريقكم إلى المغرب؟
ربما، وربما ليل مراكش المضيء: المدينة بسمائها الزرقاء القريبة جدا وسنونوها الراقص تدخل القلب بنعومة، وهي من المدن التي أحببتها وخاصة ساحة الفنا: حواة الأفاعي والقرود والنساء البارعات بالنقش على الجسد وموسيقى جبال الأطلس القريبة، مدينة تجمع الثقافة الأفريقية والشرقية والأوربية، بطعامها وأزيائها ومشروباتها وسمات وجوهها، شوارعها الفسيحة تهيء المرء للتسكع بدون هدف، وأزقتها القديمة تدفع العين للتوقف عند كل منظر وتفصيل وحائط، وحين جلست في حدائق جامع الكتبية شعرت بنفسي أعود إلى الأندلس وموشحاتها وطرز بنائها وسواقيها، حيث يحتلك التاريخ دفعة واحدة.
ما الرؤى والأحلام والاستيهامات، التي اجتاحت مُخيّلتكم ورافقت رحلتكم صوب المغرب؟
التاريخ وثقله في ذاكرتي، وكأنني أعود إلى ألف سنة ماضية حيث الجوامع العتيقة، والمدارس التراثية، واللهجة المنوعة بين العربية والفرنسية والبربرية، واستخدام الفصحى في التعامل، وخليط الأجناس كون المغرب ذات فرن خاص يجمع أفريقيا وآسيا وأوربا، إذا نظرنا إلى هجرة القبائل االعربية منذ تغريبة بني هلال. في ذهني كانت هناك الأطعمة المختلفة، وفنون السحر المغربي كما جاء في ألف ليلة وليلة، ومفازات الصحاري وبدوها، والدروب الضيقة التي تخبئ خلفها النساء، والمكتبات القديمة المكتظة بالمخطوطات.
شكّل المغرب حلقة هامّة ضمن مسار تحديث الثقافة العربيّة المعاصرة، لما ظلّ يلعبه من دورٍ فعّال في تقوية أواصر السؤال والصداقة والفكر مع المشرق العربي. من موقعكم البحثي/ الأدبي/ الفنّي، كيف ترون وتُقيّمون راهن الثقافة والفنون في مغرب اليوم؟
المغرب حاضر دائما لدى المثقف العربي المشرقي سواء في النقد والرواية والشعر، أو الفنون البصرية والترجمة. وفي سنوات ماضية كنا نتتبع بشغف ما تنشره دار توبقال من تراجم ومؤلفات مغربية وعربية، ولا يمكن نسيان دور المثقف المغربي في الترجمة عن الفرنسية، حيث وصلتنا آخر مصطلحات المدارس النقدية، ورغم المسافة البعيدة بين العراق والمغرب إلا أن الثقافة المغربية حاضرة في اهتمامات المثقف العراقي، وحين يمشي المرء في شارع المتنبي وسط بغداد، وهو شارع للثقافة والاصدارات الجديدة، يقع على نسخ متعددة من كتاب محمد شكري الخبز الحافي كما لو كان منتجا عراقيا.
هل شعرتم يوماً بأنّ الثقافة المغربيّة، تُعدّ امتداداً عميقاً لباقي الثقافات الأخرى المُنتَجة بالعالم العربي، بحكم ذلك التمازج المُتوهّج الذي رافقها منذ سبعينيات القرن الـ 20؟
بالتأكيد فكتب عبد الفتاح كليطو ومحمد عابد الجابري ومسرح الطيب الصديقي وشعر محمد بنيس وكان لي شرف اللقاء به في دمشق منتصف التسعينيات حين كنت أعمل في مجلة المدى وزارنا في مقر دار المدى، ومن ثم ياسين عدنان الذي كتبت عن واحد من دواوينه الشعرية في جريدة الحياة، ثم التقيته في بغداد بعد سنوات، ولا ننسى مقاربات محمد عابد الجابري حول العقل العربي وقد شاع كثيرا بين القراء العراقيين.
ما مدى تأثير الإنتاج المغربيّ على خصوصيات ثقافتكم، فكراً وأدباً وفناً؟ وهل تعتقدون أنّ ملامح هذا التأثير، تبدو بارزة وبشكلٍ قويّ داخل ثقافتكم وفنونكم في الحقبة المعاصرة؟
بالمجمل كان هناك استيعاب فكري ثقافي لما يصل من ثقافة المغرب، مما أنتج تلاقحا شكّل بوابة لانفتاح الثقافة العراقية خاصة فيما يخص المدارس النقدية كالتفكيكية، والبنيوية، والسيميائية، وغيرها من مدارس عادة ما كانت تصل عبر المترجمين المغاربة، أو النقاد، سواء في الفكر أو الأدب، وتصل نتاجات الكتاب المغاربة اليوم عبر معارض الكتب التي تقام سنويا في بغداد.
لكنْ، حين تسمعون المغرب، ما أوّل شيء يتبادر إلى أذهانكم؟
التمازج الثقافي الاثني واللغوي حيث تجد الأشخاص من أصل عربي وبربري وإفريقي، عدا بقايا المستوطنين الأجانب، وظلت توقا لنا لزيارتها سياحيا، فمدن مثل طنجة ومراكش والرباط والدار البيضاء وغيرها، شكلت توقا لنا ولقاء مع التاريخ، والحداثة الممتزجة بالفولكلور والتقاليد القديمة. أما أكلة الكسكس والطاجين والسمك المشوي على الطريقة المغربية فهي حاضرة في الذهن لدى كل من يروم زيارة المغرب.
هل تعتقدون أنّ الصُوَر والرؤى والأحلام والتمثّلات، التي نُكوّنها عن بلد ما، تكون صادقة لحظة الاصطدام بالواقع الحقيقي وعاداته وتقاليده وثقافته وفنونه؟
عدا عن الصورة الزاهية للمجتمع المغربي كمجتمع سياحي يتلقف الحداثة بتوق شديد، يفاجأ الزائر بالمحلية الزائدة حين يبتعد عن الواجهات في الأزقة، والساحات، والأطراف، وهي ظاهرة تعيد الزائر إلى فكرة المدن غير المكتملة في معظم الدول العربية، حيث تتعايش البنى الفكرية والدينية ومنتجات التصنيع والعلم في الآن ذاته، ويلمسها الزائر ما أن يغوص في متاهات المناطق القديمة. هذا ما لمسته في مراكش حين توغلت عبر ساحة الفنا في الأسواق المسقوفة والمناطق السكنية.
ما المُدن والفضاءات التي قُمتم بزيارتها أو عشتم داخلها في المغرب لسنواتٍ، لكنّها ساهمت في تغذية ذواتكم وتفكيركم ومُتخيّلكم في سنواتٍ أخرى لاحقة؟
عادة ما تحضرني مشاهد ساحة الفنا رغم أنني زرت مراكش قبل بضع سنوات، وأتذكر دائما الفنون الشعبية، والحواة، والأكلات الشعبية، والأزياء المحلية، وعربات النقل التي تجرها الخيول، ونمط العمارة في المكتبات القديمة والجوامع، وهناك منظر للسماء في فترات الأصيل لم أره في بلدان أخرى. أما تعابير الناس العاديين فتقول الكثير من خلال سماتها المتعبة والتائقة إلى واقع آخر أكثر سعادة.
بعد كلّ هذه السنوات، ما الذي تبقّى في جسدكم من المغرب، ثقافياً وفنياً وفكريا؟
اقتنصت جزءا صغيرا من المغرب عبر زيارتي إلى مراكش وامتدت عشرة أيام فقط، ولأن المغرب متنوع في كل شيء لذلك أطمح إلى زيارة مدن أخرى كالدار البيضاء والرباط وطنجة، وهي مشاريع مؤجلة، فالمغرب ثقافة وفنونا ونشاطات، أشبه بالتكوينات الجيولوجية المتراكمة الطبقات يصعب الالمام بها عبر زيارة مدينة واحدة. وهي في النهاية، وعلى الصعيد الشخصي، نافذة أخرى لتوسيع التجربة، ومقاربة ضرورية للإلمام بالثقافة العربية عموما.