أولا هل لك بتقديم نبذة تعريفية عن مساركم، من جامعة سيدي محمد بن عبد الله حتى التحاقكم بالديار الأوربية؟
لن أدخل في التفاصيل نظرا للهاجس الأمني من جهة، ومن جهة أخرى لطول المسيرة، كل ما يمكن قوله هو أنني هاجرت إلى أوروبا في سنة 1989 من أجل الدراسة أو العمل، حيث كانت الأوضاع الدراسية في جامعة سيدي محمد بن عبد الله في موسم 88-89 لا تسر أحدا: إضرابات باستمرار من أجل مطالب الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، دون الحديث عن بداية الصدام بينهم وبين الطلاب الجدد من الإخوان. في ظل هذه الظروف انتقلت للضفة الأخرى بحثًا عن الدراسة أو العمل، فاستطعت أن أوفق بين العمل بالدرجة الأولى والدراسة لأنني من عائلة فقيرة، خصوصًا أنني الأكبر سنا بين إخوتي.
لم يكن لي مجال للدراسة فقط، مما جعل مسيرة الدراسية طويلة وشاقة، استطعت بعد سنين من الدراسة والأبحاث أن أكسب ثقة الدكتور كريستوف لوكسنبرغ - اسم مستعار لعالم جليل من أصل لبناني- الذي نصحني بدراسة القراءات المختلفة للقرآن، ورسم المصحف كي يمكن البدء في دراسة مادتي: علم المخطوطات Codicology وعلم الخطاطة Palaeography وعند النجاح في هاتين المادتين بدأت بعلم فقه اللغة المقارن Philology، وعندما أكملت هذه الدراسات عملت كمساعد له ولبعض الباحثين في موضوع المخطوطات، وفي شتنبر 2013، وبعد ما نظمت بنجاح مؤتمر هلسنكي بعنوان التاريخ الإسلامي المبكر والقرآن (ق 7و 8 الميلادي) بشراكة بين جامعة هلسنكي ومعهد إنارة الألماني، والمؤسسة الراعية للدعم الثقافي كيميديا KM، كسبت ثقة المكتبة الوطنية الروسية LNR في سانت بطرسبورغ ونلت أحقية دراسة ونشر مخطوطة مارسيل 18 Marcel. بعدها قدمت بحثاً علميًا لسورة الفيل في القرآن نالت تزكية كل علماء المعهد العلمي الألماني إنارة Inârah.Istitut zur Erforschung der frühen Islamgeschichte und des Koran وهذا البحث بعنوان "سورة الفيل بين الحقيقة والأسطورة"، وهناك أبحاث أخرى قدمتها بشراكة بعض العلماء مثل الأب Edouard-Marie Gallez وغيره من الباحثين في هذا المجال.
ما الأسباب التي جعلتكم تفضلون الاشتغال بعيدا عن أرض الوطن؟
الأسباب التي جعلتني أفضل الاشتغال بعيدا عن أرض الوطن هي الأوضاع التي كانت تعيشها جامعاتنا من إضرابات وشح الكتب المهمة للدراسة وغلاء سعرها، ناهيك عن الفقر الذي يظل العامل الرئيسي في الموضوع وسياسة التصفية والمحسوبة، فقد قدمت على العديد من المدارس العليا في البلاد، ولم أحصل حتى على جواب منهم يفيد برسوبي في مباريات الولوج، مما جعلني أقبل بالتسجيل في جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كنت أرى المستقبل مظلما حالكا أمامي، كل هذا وأنا أرى ثقل المسؤولية على السيد الوالد وثمانية من الإخوة والأخوات ينتظرون فرصة للنجاح.
© Copyright : DR
على ماذا يرتكز تخصصكم في علم المخطوطات، ومتى تخصصتم في هذا العلم؟ وما أبرز إسهاماتكم في المجال؟
تخصصي بالضبط هو دراسة وتحقيق ونشر مخطوطة مارسيل 18 Marcel ؛ منذ 2013، أما أهم إسهاماتي في المجال، نجد على رأسها كتاب بعنوان "مقدمة مخطوطة القرآن القديمة" سوف يُنشر في هذه الأيام، والبحث العلمي لسورة الفيل بين الحقيقة والأسطورة.
عرف عنكم اشتغالكم إلى جانب الدكتور كريستوف لوكسونبرغ في كتابه قراءة آرامية سريانية للقرآن الكريم.. هل لك أن تحكي لنا كيف مر العمل معه، سيما ما أعقب إصدار الكتاب من تهديدات لصاحبه؟ ألم تتعرضوا لأي مضايقة بعد إصداره؟
كتاب القراءة السريانية الآرامية للقرآن من تأليف كريستوف لوكسنبرغ، وهذا الاسم المستعار هو ربما الذي جعله لازال على قيد الحياة حتى الآن، والدكتور بوين هو تلميذ كذلك للوكسنبرغ درس عنه مادة Philology وهو أستاذ مختص في مادة Palaeography وهو الذي حقق مخطوطات صنعاء الشهيرة، أما بالنسبة للمضايقات، أنا شخصيا لم أتعرض لأي نوع من المضايقات، بل على العكس، بعد دخولي للمغرب في آخر شهر السنة الماضية وقضاء رأس السنة الميلادية فيه كان هناك ترحيب شديد من متابعي برنامج صندوق الاسلام (برنامج على اليوتوب يعده الدكتور حامد عبد الصمد)، الذين تعرفوا عليّ ، وكذلك المكتبة الوطنية الملكية بالرباط. وبالمناسبة أشكر فريق العمل في هذه المؤسسة المشرفة رغم إمكانياتها البسيطة بالمقارنة بمكتبات دول صديقة للمغرب، وأتمنى من وزارتي الثقافة والتعليم أن تدعم وترعى ماديًا ومعنويًا هذه المؤسسة العلمية.
برأيكم كيف تقترحون التعامل مع النص الديني؟ معالجته كنص تاريخي في سياقه أم تنزيل ما يزال صالحا فيه في المجتمعات الدينية؟
للحصول على نتائج علمية مهمة يجب أن نترك الجانب العقائدي على الهامش وندرس النص القرآني، كنص تاريخي يستحق كل الاهتمام والاحترام، فالجانب العقائدي يجعل الباحث ينساق وراء مشاعره تجاه هذا النص المقدس.
© Copyright : DR
هناك حاليا موجة كبيرة ممن يسمون أنفسهم "الباحثون في الإعجاز العلمي للقرآن".. على ماذا تقوم أطروحاتهم؟
النص القرآني تراث مشترك بين العديد من الأجناس والأعراق، الغاية منه وصول رسالة دينية للشعوب والأمم، وإدخال ما يسمى بالإعجاز العلمي في النص القرآني هو لي عنق الحقيقة، فكل ما ذكره القرآن يُوافق تمامًا البيئة التي نشأ فيها كموضوع قبة السماء على سبيل المثال التي قد تسقط كسفًا على رؤوس المكذبين في سورة الإسراء: 92، الشعراء: 187، سبإ: 9، الطور 44. كما أعطي مثالا بموضوع "انشقاق القمر وإشاعة الناسا"، وهو فهم خاطئ للموضوع، فلو انشق القمر في القرن السابع الميلادي لتأثرت الأرض كلها من ذلك الحدث وماتت العديد من الكائنات لانتشار قوة الإشعاع النووي الناتج عن هذه التصدعات، ولذُكر كذلك هذا الحدث عند كل الأجناس والأعراق الأخرى في تاريخهم، فحتى المسلمون أنفسهم لم يذكروا شيئا عن هذه "المعجزة" في القرنين الأول والثاني للهجرة، ولا توجد أي وثيقة من ذلك العصر تُفيد هذا الادعاء أو غيره.
وأنهي هذه النقطة بقول الشيخ الشاطبي "لا يجوز لأحد أن يفسر آيات القرآن الكريم، بما لم يكن معروفا عند الصحابة مما جدّ فيما بعد. يقول: إن كثيراً من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحدّ، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين: من علوم الطبيعيات والتعاليم والمنطق وعلم الحروف وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها، وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح، وإلى هذا فإن السلف الصالح – من الصحابة والتابعين ومن يليهم – كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا المدعى، سوى ما تقدم وما ثبت فيه من أحكام التكاليف، وأحكام الآخرة وما يلي ذلك" (إعجاز القرآن لفضل حسن عباس وسناء فضل عباس جامعة القدس المفتوحة ص: 259).
لعل أبرز إكراه لكم في تخصصكم هو أنكم تستعملون مناهج علمية في مجال يزاوج بين التاريخ والاسطورة، كيف يتم العمل لو أن بعض نتائجكم تخالف المعتقد العام؟ أعني هل تمسكون العصا من الوسط من خلال اختيار دقيق للكلمات، أم تضعون نتائجكم مجردة وبحياد تام؟
في البحث العلمي لا يمكن أن تمسك العصا من الوسط، فالخرافة خرافة لا يمكن أن تجعلها حقيقية، والحقيقة التاريخية هي حقيقة ترتكز على أدلة تاريخية معروفة، ولمعرفة طريقتي في التعامل مع ما هو أسطورة وما هو تاريخ أطلب من القارء الكريم أن يقرأ البحث الذي قدمته على سورة الفيل.
عرفكم الجمهور العربي الواسع، من خلال إسهاماتكم في برنامج "صندوق الإسلام"، هل لامستم أي تقدم للعقلية العربية في التعامل مع التراث الديني؟
نعم هناك تقدم في العقلية الإسلامية المثقفة؛ حيث لاحظت أن العديد من المثقفين مهتمين جدًا بما نقدمه من مادة في صندوق الاسلام، وقد اتصل بي العديد من الأساتذة الجامعيين وخاصة في أقسام الفلسفة ولامست هذا التجواب والتشجيع منهم، وخاصة في المغرب.
© Copyright : DR
هل تتفقون أن اكتشاف مصحف صنعاء، كان حجر الزاوية في إزالة الغيوم عن العديد من الحقائق التي تهم النص القرآني؟
مخطوطات صنعاء الشهيرة التي اكتشفت في أوائل السبعينيات القرن الماضي والتي حققها أستاذي الدكتور بوين كشفت الغطاء عن ما كان مبهماً في الفترات الأولى للتدوين، حيث قدمت لنا قراءة أخرى تختلف عن كل القراءات التي درسناه عن علماء القراءات المختلفة من زيادة ونقصان وترتيب السور واختلاف في المعنى بينها وبين القراءات الرسمية المعروفة على سبيل المثال بدلاً من كلمة الذكر في سورة الحجر: 6 يوجد :" وقالوا يا أيها الذي نزل عليه القرآن إنك لمجنون". فقد قدمت الدكتورة إليزابيث بوين خمسة أبحاث في هذا الموضوع في سلسلة كتب معهد إنارة السبعة.
© Copyright : DR
اشتغلتم بشكل مستفيض على وثيقة مصحف بيرمنغهام، هل لك أن تضعنا في الصورة حول ما خلص من تحليل الوثيقة عبر تقنية الكاربون المشع؟
مخطوطة برمنغهام Arab 1572a مكونة من رقعتين فقط، قيل في الإعلام إنها أقدم مخطوطة للقرآن في العالم، وهذا الادعاء باطل لأن الكربون المشع لا يعطي تاريخاً محددًا للمخطوطة، بل يعطيك نتائج بهامش خطإ يقارب خمسين سنة بإفراط وتفريط، وهذه هي معضلة الكربون المشع فمادة Codicology تحل هذه الإشكالية، فالعوامل الأخرى هي التي تحدد نسبية عمر المخطوطة من خط ورسم وزخرفة وقراءة. فعندما نجد في هذه المخطوطة قراءة ابن عامر الشامي (ت 118 هـ) نقول إن هذه المخطوطة لا تعود لعصر الرسول ولا حتى الخلفاء الأربعة، فهي تأتي في المرتبة الثالثة من بعد مجموعة صنعاء (DAM 01-27.1) ومصحف باريِسِنُو- بِطْرُبُولِيتانُس Parisino-petroplitanus التي تنتمي إليه مارسيل 18.
علمت أنكم اشتغلتم على بحث حول سورة الفيل، ماذا كانت خلاصات البحث؟ وهل ستنشرون البحث بالمغرب وباللغة العربية؟
بحث "سورة الفيل بين الأسطورة والتاريخ"، بحث باللغة الإنجليزية، وسوف أترجمه للغة العربية في الأيام المقبلة فلو هناك مؤسسة علمية تريد نشره، ممكن الاتصال بي عبر صفحتي على الفايسبوك، أما عن الموضوع فهو وضعها في سياقها التاريخي، أي أن سورة الفيل في القرآن تتحدث عن الصراع الفارسي البيزنطي وبالضبط معركة حدثت 591م بين القائد الفارسي بهرام والبيزنطيين لاسترجاع عرش خسرو الثاني المغتصب ومحاولة الجنرال بهرام استمالة القائد الأرميني موشغ الثاني إلى صفه وتهديده بالفيلة المدربة على الحروب في حالة رفضه الانضمام إليه، أما قصة أبرهة الأشرم فليس لها أي سند تاريخي بخلاف ما ذكره المؤرخ الأرميني سيبيوس Sebeosعن معركة 591م في مخطوطة Matenadaran, MS. № 2639، والتي أدعو الجمهور الكريم إلى قراءتها.
في الخطاب الملكي لـ20 غشت 2016، وردت جملة "وهل يقبل العقل السليم أن يكون جزاء الجهاد هو الحصول على عدد من الحور العين ؟ وهل يقبل المنطق بأن من يستمع إلى الموسيقى ستبلعه الأرض، وغيرها من الأكاذيب"... هل ترون في الأمر بداية للقطع مع استغلال الأساطير لغايات سياسوية؟ ولبنة أولى في نقد التراث الإسلامي من وجهة نظر عقلانية؟
الخطاب الملكي لـ20 غشت 2016، مبادرة رائعة من الملك محمد السادس لمراجعة مناهج وبرامج الدروس الدينية التي تقدم في مدارسنا العامة والخاصة وكذلك مساجد المملكة، فجلالته لم ينكر فوز الأبرار بالجنة، ولكن أنكر سخافة الفكر الساذج الذي يُوهم الإرهابيين بالحصول على نساء في الجنة لا شغل لهم سوى فك الأبكار، وهذه المبادرة تُساعد على طرد الفكر الإرهابي المتطرف والحركة الوهابية المتشددة، وتجعل القانون الوضعي للدولة أسمى من كل قانون آخر، فيه كل أفراد المجتمع سواسية كأسنان المشط، كانوا مسلمين أو يهودا أو مسيحيين أو لا دينيين.