ما يُثير الانتباه في « المعرض الدولي للكتاب » بالرباط في دورته الأخيرة أنّ هناك اجتهادات كبيرة من ناحية التنظيم والأسماء، رغم أنّ جزء كبيرٌ منها غير منخرط بشكلٍ قويّ في الساحة الثقافة. وبالتالي، فإنّ الدعوات خاضعة في عمومها إلى منطق الصداقة والشيوخ وكبار السن من وجدوا أنفسهم داخل أجناس أدبيّة معيّنة، رغم بساطة ما يكتبون في الأدب. وهي في معظمها أمورٌ لا أخلاقية تُعيق تقدّم المجال الثقافي، وتجعله مشابهاً لمنطلق الأحزاب والسياسة عموماً. في حين لم نعثر على تمثيل للوجوه الجديدة التي تشتغل بشكلٍ يوميّ داخل الوسط الثقافي وتعطيه نفحة تجديدية، سواء في الشعر أو الرواية أو القصّة والنقد أو حتّى من داخل العلوم الاجتماعية عبر أبحاثٍ ودراسات.
لكنّ المُثير للدهشة هو كيف أصبحت معارض الكتب عبارة عن حفلات وأعراس « يحتفي » فيها المثقف بمؤلفات يغلب عليها الضجيج أكثر من الصمت. إنّ الثقافة مكان الصمت وفضاء للتأمّل، لأنّ المثقف لا يحتاج إلى جمهور، بل إلى مساحة كبيرة من الصمت، حتّى يُفكّر ويكتب شيئاً مفيداً للناس. غير أنّ الايمان الأعمى بالنسبة للمؤسسات الوصية على الشأن الثقافي في كونه الثقافة مجرّد إكسيسوار، يدفع بالعديد من المثقفين المغاربة إلى التعامل مع الندوات واللقاءات بشكلٍ ترفيهي يرتفع فيه منسوب التفاهة وينخفض فيه صوت العقل والمعرفة.ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي وتغوّلها الفاحش في بروز ظاهرة « المثقف النجم » غير المُنتج للمعرفة بقدر ما يُنتج الصُوَر والفيديوهات، بل ويُسوّق لنفسه بضاعة بائسة، لم يعُد أحداً في حاجة إليها أمام واقع جديد. المثقف النجم موجود في كلّ المؤسسات والأحزاب والجمعيات والمجتمع المدني ويُقدّم نفسه عارفاً بكلّ شيء ولا شيء. إنّه كائنٌ زئبقيّ مُتحوّل عبر المناهج والمفاهيم والنظريات، إذْ لا يستقرّ في أيّ شيء، بل يُخضع بضاعته الثقافية إلى منطق العرض والطلب. ويكون المثقف النجم حاضراً في كلّ القنوات التلفزيونية ويحاضر ويُساجل المثقف والسياسي والاقتصادي والفقيه والفنّان لدرجةٍ يتحوّل فيها إلى داعية يُخاطب كلّ الناس. وإذا تتبعنا طبيعة المؤلفات الصادرة هنا وهناك، لا نعثر داخل الثقافة المغربية على كتاب يُحلّل هذه الظاهرة ويُبرز أمراض المثقف في تعامله مع السوشل ميديا. هذا الأمر، يُظهر عجزاً كبيراً وعدم قدرة الثقافة الوطنية على تتبّع تحولات واقع الإنتاج الثقافي، ذلك إنّ الثقافة بمفهومها المركّب ترصد حتّى ما قبل فعل الثقافة نفسها، وذلك من خلال كتابة تبحث في وسائط الثقافة وقنواتها ووسائلها.
ظاهرة توقيع الكتب مربحة بالنسبة للناشر ومفيدة له من المنطلق التجاري، لكنّها تُتيح للكاتب بعضاً من الشهرة المصطنعة التي تجعله يغدو مثل النجم وهو ينشر صوره مع قرّاء يعرف مسبقاً أنّ لا أحد سيقرأ ما يكتبه. إنّنا نعيش زمن العجز الذي تصبح فيه بعض السلوكات عبارة عن تقليد. من حقّ المثقف أنْ ينشر صُوَره مع قراء يُحبّون ما يكتب، لكنْ أنْ تصبح الصُوَر والفيديوهات تحتلّ برنامجه الثقافي فهذا أمرٌ غير مقبول ويُظهر بطريقة ما هشاشة تفكيره ورهانه على الترفيه أكثر من الإنتاج المعرفي.
المثقف الحقيقي يظلّ دائماً بعيداً عن الكاميرا ويخاف منها ولا يقربها أبداً، لكنْ حين يقبل بدعوة صحافي مجتهد، فإنّ الحلقة عادة ما تتحوّل إلى مختبرٍ حقيقي للتفكير، بما يطرحه المثقف من أسئلة نقديّة حارقة ذات صلة بالإنتاج الثقافي وقضاياه وإشكالاته.