وفي محور ثان، مرتبط رمزيا بالأول ووثيق الاتصال به، أعلن الملك عن منعطف جديد في مجال تدبير شؤون الجالية المغربية المقيمة بالخارج. هي «هندسة ملكية» كبرى للمنظومة المؤسساتية التي تتولى تدبير شؤون الجالية المقيمة بالخارج.
ويأتي هذا «المنعطف المؤسساتي»، الذي دشنه الملك، منسجما مع الخطاب الملكي في غشت 2022، والذي قام فيه بتشخيص واضح للحكامة الحالية لموضوع المغاربة المقيمين بالخارج، حيث دعا إلى إعادة التفكير العميق في عمل الدولة تجاه هذه الفئة. وتبعا لذلك، تم التحضير لعمل في هذا الاتجاه على مستوى القطاعات الوزارية المعنية، في إطار لجنة وزارية يرأسها رئيس الحكومة.
ثلاثة أفكار رئيسية وردت في الخطاب قبل تحديد الإصلاح و«الهيكلة المؤسسية الجديدة»:
- إن أشكال الروابط والتعبيرات عن ارتباط المغاربة المقيمين بالخارج ببلدهم الأصلي أصبحت اليوم عديدة ومتنوعة. تطور أساسي يجب أن يأخذه عمل الدولة ومختلف الفاعلين بعين الاعتبار من أجل تعزيز هذه الروابط أكثر، في إطار استراتيجية متجددة للتأطير الثقافي واللغوي والديني والهوياتي.
- المغاربة المقيمون بالخارج سفراء ومدافعون باستمرار عن القضية الوطنية، ومن هنا جاء هذا الربط، الذي يكتسي دلالة رمزية بالغة في خطاب 6 نونبر، بين القضية الوطنية وقضية الجالية المغربية المقيمة بالخارج.
وباستثناء عدد قليل من المهمشين، الخاضعين لأجندات خارجية، فإن الجالية المغربية بجميع أنحاء العالم معروفة بوطنيتها المتقدة، وتشبثها المتين والراسخ بثوابت الأمة، من خلال دفاعها الحيوي عن القضية الوطنية.
ومن خلال وطنيتها ودفاعها الحيوي والعفوي عن القضية الوطنية، أظهرت الجالية المغربية المقيمة بالخارج أنها حصن متين ضد كل النزعات الانفصالية وإغراءات المعارضة المضللة، وحتى الخائنة التي تستهدف مصالح الأمة. لم تنخرط الجالية المغربية بالخارج أبدا في هذا المخطط، ولم تُبدِ أي تضامن مع ألاعيب «معارضة الخارج» لاستهداف البلاد ومؤسساتها.
- يشكل المغاربة المقيمون بالخارج رافعة أساسية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية للمغرب. وكما يعكسه التزايد المستمر لحجم تحويلاتهم المالية، فهم مهتمون بشدة بتنمية بلدهم الأصلي، ويطمحون إلى مساهمة أكبر في هذه التنمية، لا سيما في ما يتعلق بالاستثمارات، ونقل الكفاءات والمعرفة. ويجب القيام بكل شيء من أجل إشراك المغاربة المقيمين بالخارج في مسلسل التنمية، ومن أجل إتاحة كل الفرص أمام الكفاءات والمواهب المغربية في الخارج.
إصلاح الهيئات المكلفة بالجالية المغربية المقيمة بالخارج، الذي أمر به الملك، يرتكز إلى بنية مؤسسية جديدة تقوم على ركيزتين:
1. مجلس الجالية المغربية بالخارج: مؤسسة دستورية ذات دور تداولي واستشاري. واليوم، يتعلق الأمر بإصدار القانون المتعلق بمجلس الجالية المغربية المقيمة بالخارج، وتجديد تشكيلته، حتى يصبح أكثر تمثيلا، وجعله فضاء للنقاش والتبادل، وقوة اقتراحية حقيقية.
2. المؤسسة المحمدية للمغاربة المقيمين بالخارج: وكالة عمومية جديدة سيتم إحداثها، لتشكل «الذراع التنفيذية» للسياسة العمومية تجاه المغاربة المقيمين بالخارج.
نحن أمام مؤسسة كبرى ستضطلع بأدوار وازنة. حقائق جديدة، طموح جديد، و«ثورة مؤسساتية».
من هنا تأتي تسمية «المحمدية» التي تترجم، أولا: العناية السامية التي يخص بها الملك محمد السادس مغاربة العالم، اعتبارا لخصوصية الروابط الروحية والبيعة التي ما فتئت تجمع هذه الفئة من المواطنين بالملكية المغربية، وثانيا: الطبيعة الاستراتيجية بامتياز التي تكتسيها المؤسسة الجديدة للمغاربة المقيمين بالخارج، ثم ثالثا: الضرورة الأخلاقية والرمزية التي ستقع على عاتق هذه المؤسسة، حتى تكون في مستوى انتظارات الملك، والمغاربة المقيمين بالخارج.
وستتمثل مهمتها في تجميع الصلاحيات المتفرقة حاليا بين فاعلين كثر، وفي المقام الأول القطاع الحكومي المكلف بالمغاربة المقيمين بالخارج، الذي ما فتئ يتغير شكله وارتباطه بتغير الحكومات.
كما ستتمثل مهمتها، أيضا، في تحضير وتأمين تنسيق وتنفيذ «الإستراتيجية الوطنية للمغاربة المقيمين بالخارج»
كذلك، ستتمثل مهمة المؤسسة الجديدة في تدبير «الآلية الوطنية لتعبئة الكفاءات المغربية المقيمة بالخارج»، التي أمر الملك بإحداثها.
ويتعلق الأمر هنا بمهمة أساسية وواعدة في إطار الدفعة الجديدة التي أخذتها العلاقات متعددة الأبعاد للمغاربة المقيمين بالخارج مع بلدهم الأم. وهكذا، ستحظى الكفاءات والمواهب المغربية المقيمة بالخارج، أخيرا، بمنصة ومحاور وحيد ومُعين، يمتلك الصلاحيات والوسائل.
سيكون من ضمن مهام المؤسسة المحمدية للمغاربة المقيمين بالخارج تنسيق أعمال التأطير اللغوي، الثقافي والروحي وإيصال صوت وانتظارات المغاربة المقيمين بالخارج إلى مختلف الإدارات والمؤسسات الوطنية. ويتمثل التحدي المطروح أمامها في إعطاء دفعة جديدة لآليات تأطير المغاربة المقيمين بالخارج، والتي يحتاج بعضها بشكل كبير إلى التحديث والمرونة.
وفي هذا الصدد، يتعين أن تكون المؤسسة الدعامة الأساسية من أجل عرض ثقافي عصري ومتعدد موجه لمختلف أجيال المغاربة المقيمين بالخارج. ويبحث مغاربة العالم بكافة الوسائل، عن تعزيز ارتباطهم بالمملكة. ويريدون إطلاع أطفالهم على دينهم، وثراء تاريخهم، ولغتيهم الوطنيتين.
كما أبرز الملك أن هذه المؤسسة الجديدة ستكون مدعوة إلى رفع تحدي تبسيط المساطر الإدارية بالنسبة للمغاربة المقيمين بالخارج.
ويتعين أن تنكب على هذا الموضوع بحزم، من خلال رفع رهان رقمنة أكبر عدد من الخدمات والمساطر الإدارية.
من جهة أخرى، دعا الملك محمد السادس إلى فتح آفاق جديدة لاستثمارات المغاربة المقيمين بالخارج على مستوى المملكة. لأنه وعلى الرغم من برامج التحفيز المتعددة، أنجز المغاربة المقيمون بالخارج 10 بالمئة فقط من الاستثمارات الخاصة بالمغرب، مما يدعو إلى مراجعة للآليات الحالية، بتنسيق وثيق مع المراكز الجهوية للاستثمار، والصناديق العمومية، بشراكة مع الأبناك المغربية.
إجمالا، تعتبر إعادة الهيكلة المؤسساتية لشؤون المغاربة المقيمين بالخارج، التي أطلقها الملك، لحظة تحول، من شأنها ترشيد مشهد المتدخلين المتعددين في المجال، وإعطاء رؤية أوضح في المجال، بعد تجربة من التردد حول ارتباط «قطاع» المغاربة المقيمين بالخارج
وفي ما يخص الوضع القانوني للمؤسسة، فإنها ستكون عمومية استراتيجية، تتوفر على مجلس إدارة، ويتم تعيين رئيسه من لدن الملك محمد السادس، ثم يُسمَح بإشراك جميع الفاعلين والأطراف المعنية، نظرا لدورها الهام وتعاونها الوثيق مع الشبكة الدبلوماسية والقنصلية.
ومن دون شك، فإن «الآلية الوطنية لتعبئة الكفاءات المغربية المقيمة بالخارج»، ستميل إلى تفضيل المرونة على الأساليب البيروقراطية، وستستجيب للانتظارات ذات الأولوية للمواهب بالخارج، كما ستُساهم في تحقيق غايات وأهداف سامية كبرى، كفاعل ديناميكي في الدبلوماسية الموازية.