الظاهرة ليست جديدة، لكنّها أصبحت منذ سنة 2011 ظاهرة مستفحلة بقوة ليس في البرامج السياسية فقط، بل حتّى في طبيعة الحياة اليوميّة للأفراد. فقد غدا الخطاب الديني في حياة المغاربة مرجعاً أساسياً في كلّ شيء، إذْ يحاول عبره الناس أنْ يرسموا لهم طرقاً ومسالك حتّى لو كان الأمر يتعلّق بأمورٍ لم يحسم فيها التفسير الديني. مرد ذلك إلى اخراس صوت العقل والإيمان بالمواعظ الأخلاقية التي عادة ما لا يُطبّقها الواعظ نفسه. تضخّم الديني في حياة المغاربة أمرٌ يحتاج إلى إعادة التفكير فيه ورصد مظاهره ودوافعه وسلوكاته. فالدين لا ينبغي أنْ يخرج من كونه ديناً، بل لا ينبغي أنْ يُزجّ به في سوق المضاربات السياسيّة، حتّى لا تصبح الديمقراطية نفسها يحمها إطار ديني أو عقدي. بل ينبغي أنْ يبق الدين ديناً والسياسية سياسة. لم يكُن هذا الأمر مقبولاً في صفوف الإسلاميين الذين يُصرّون على استعادة الماضي التليد بكل صُوَر وأفكاره ومواقفه، وعياً منهم بأنّ هذا الماضي قادر على حلّ الكثير من المعضلات التي تطال الواقع اليومي.
حارب اليسار منذ سبعينيات القرن الماضي هذه الفكرة المبنية على استغلال الدين في السياسة، لكنّه لم ينجح في القضاء على هذه الظاهرة التي تكرّست داخل النفق السياسي. اليوم، حين يتأمّل المرء مجتمعاً مثل المغرب يجد نفسه أمام بلدٍ يعيش أفراده تناقضاً حقيقياً بين الانتساب إلى الماضي وبين التنطّع صوب الحداثة السياسية وأصالتها. أصبحت السوشيال ميديا مليئة بأصحاب المواعظ الذين يقدّمون دروساً مجانية للناس ويدعونهم إلى الانضمام لـ « أحزاب دينية » في محاولة تضليلهم واستدراجهم إلى فهم خاطئ عن ماهية السياسة وأسسها ووظيفتها داخل المجتمع.
استخدام الرأسمال الديني في السياسة شكلٌ من أشكال المتاجرة فيه ومحاولة إفراغ الدين من قيمته الروحية المذهلة. ما يُثير الاستغراب في المجتمع كيف غدا الناس يستندون في كلّ « تحليلاتهم » العلمية الدقيقة إلى الموروث الديني، مع العلم أنّ هناك فرقاً كبيراً بين العلم والدين. ولعلّ أعطاب هذا الفهم تبدّت بوضوح في زمن كوفيد، ففي الوقت الذي كان فيه بعض العلماء في دول متقدّمة يجابهون الموت في مختبراتهم العلمية للوصل إلى لقاح فعّال، ظلّ رجال الدين يعتلون عرش الوسائل التواصل الاجتماعي ويُقدّمون للناس في مشاهد سخيفة بعض وصفات العلاج من هذا المرض. لم يستسغ رجل الدين ومعه السياسي أنّ الأمر أكبر من كونه مرض عاديّ بل عبارة عن فيروس فتّاك يصعب القضاء عليه بالملح والزنجبيل.
إنّ من يستغلون الدين في السياسة شبيهون بهؤلاء الذين قدموا تلك الوصفات الساخرة خلال يوميّات كورونا، معتقدين أنهم سينقذون البشرية من جرّاء ذلك. خاصّة وأنّه في مجتمع تقليديّ يصبح الدين أهم عنصر للوصول إلى سدّة الحكم، بل يصبح كلّ عنصر آخر لتحليل المجتمع غير مرحّب به على مستوى التفكير.