بعد أن تطرقنا في الحلقتين الماضيتين إلى شخصية جون جانزون، أو ما عرف بإسم مراد الرايس، الرجل الهولندي الذي حكم جمهورية سلا وداع صيته في بحار أوروبا، سنسلط الضوء في الحلقات القادمة على شخصية المجاهد العياشي، الرجل الذي أفلت من قبضة السلطان السعدي مرات عديدة، ليحكم سلا بطلب من أهلها، ويقود حروب ضد البرتغاليين والحرناشيين والدلائيين.
ينتمي المجاهد العياشي إلى بني مالك بن زغبة، من قبائل بني هلال التي استوطنت منطقة الغرب، تتلمذ على يد عبد الله بن حسون، أحد صلحاء سلا، ليستقر بعد وفاة السلطان احمد المنصور الذهبي بناحية ازمور، حيث داع صيته وعرف عنه تقواه ورغبته في الجهاد، فولاه السلطان السعدي مولاي زيدان قيادة ازمور وناحيتها بطلب من سكانها. انخرط العياشي في محاربة البرتغاليين الذين كانوا يقيمون بالجديدة، فغنم منهم الكثير في حروبه معهم، وكان يرسل الأسرى منهم الى السلطان مولاي زيدان. بدأ نفود العياشي يتقوى في المنطقة، الشيء الذي جعل حاشية السلطان السعدي تحذره منه وتنصحه بالقضاء عليه. إستجاب السلطان لإملاءات حاشيته، فأرسل 400 فارس لمحاربته بقيادة محمد السنوسي. إنطلق السنوسي وكتيبته إلى مدينة أزمور، حيث تمكنوا من القبض على العياشي، ونظرا لما عرف عن هذا الأخير من تقوى وورع، أشفق عليه السنوسي مشيرا عليه بالإفلات، حينئذ إنسحب العياشي إلى سلا من جديد.
طلب السلاويين من العياشي أن يقود حركة الجهاد على البرتغاليين الذين كانوا يحتلون المعمورة، ويستفيدون من خشب غاباتها لصناعة السفن. تمكن العياشي من قهر البرتغاليين وحد من تحركاتهم اتجاه الغرب. أرسل السلطان مولاي زيدان مرة أخرى الزعروري قائد الفرقة العسكرية الاندلسية المقيمة بالرباط، للقبض على العياشي. تريث الزعروري في القبض على العياشي لتأكد من نواياه الحقيقية فأرسل جواسيسه لتقفي أثره وتحركاته.
بعد إنتهاء ولاية مراد رايس، في 1627، إنتفض الموريسكيون على وصاية ممثل السلطان وتضريبه لجزء من مداخيل القرصنة لفائدة مولاي زيدان، فقتلوا القائد الزعروري ونهبوا منزله، فأرسل إليهم قائدا اخر من طرفه فقتلوه كما فعلو بالزعروري.
سيطر الحرناشيون بين 1627 و1630 على السلطة باحتكارهم لكل مقاعد الديوان، الشيئ الذي أثار حفيظة الموريسكيين وهم سكان الرباط، خارج القصبة، و خلق توترات انتهت بمواجهات دامية أسفرت عن إتفاق الطرفين سنة 1630، بوساطة من السفير الإنجليزي هاريسون، حول إنتخاب القايد من ساكنة الوداية، و إستقراره في القصبة المتواجدة في سلا، و تقسيم أعضاء الديوان الستة عشر، بالتساوي، بين منتخبي القصبة و منتخبي سلا الجديدة (الوداية). أفضى الاتفاق أيضا الى قرار تقسيم موارد غنائم القرصنة والجمارك، بالتساوي، بين الطائفتين.
في ظل هذه الاحداث لزم العياشي منزله بمدينة سلا، قبل ان يخرج من جديد سنة 1631، بعد أن تواردت عليه الشكايات من التجار والمسافرين الذي باتوا عرضة للنهب، وكانت سلا قد أصبحت بدون وال، فطلب منهم العياشي ومن رؤساء القبائل الوافدين أن يوقعوا له ميثاقا يلتزمون بموجبه، بمساعدته وترشيحه عن طواعية لتدبير شؤونهم. وهكذا ضمن العياشي لنفسه وجودا قانونيا كحاكم سياسي وإداري يمتد نفوذه من تامسنا إلى تازا، ثم هاجم البرتغال بالمعمورة، كما هاجمهم بالعرائش والجديدة وطنجة. يتبع في الجزء القادم