بعد ان تكلمنا في الحلقة الأولى عن محنة طرد المورسكيين من بلاد الاندلس، وتشتتهم على بقاع متعددة من بلاد شمال افريقيا والشام والأناضول، وكيف وصلوا الى ضفتي ابي رقراق، نسلط الضوء في هذه الحلقة على الحرناشيين، سكان قرية اسبانية التي تتبع حالياً لمقاطعة بطليوس بمنطقة إكستريمادور ذاتية الحكم، والذين كان لهم دور أساسي في بناء جمهورية ابي رقراق الى جانب الاندلسيين المطرودين من اسبانيا.
بعد سقوط غرناطة في يد الاسبان سنة 1492 ميلادية، كتب على الحرناشيين ان يعيشوا بدورهم محنة الموريسكيين والخروج من إطار "المدجنين" الذي كان يضمن لهم حرية الممارسة الدينية والاحتفاظ باللغة والتقاليد، حيث صدر مرسوم في سنة 1502 ميلادية، يخيرهم ما بين المنفى او التعميد أي الدخول في الديانة المسيحية من خلال طقوس الكنيسة، فاختار الجميع التعميد بطريقة شكلية، غير انه في سنة 1526م صدر مرسوم ملكي يحظر ممارسة أي دين أو مذهب غير الكاثوليكية باسبانيا، فتمرد الحرانشيون، وتم محاصرتهم مدة أسبوعين. فاستسلموا، وقبلوا الكاثوليكية بطريقة شكلية، كما فعلوا سابقاً مع التعميد.
طرد الحرناشيين من بلاد الاندلس
اشتغل الحرناشيون بصناعة الأسلحة، وظلوا يقيمون شعائرهم الدينية ولم تتغير لغتهم العربية، كما اشتهروا بنشاطهم في قطع الطرق وتنظيم العصابات والتنكيل بالمخبرين والمتعاونين مع أجهزة السلطة الإسبانية، خصوصاً محاكم التفتيش. كانت منطقة هورناتشوس مصدراً هاماً للدخل بالنسبة للتاج قشتال، حيث أدين عدد كبير من سكانها بسبب مخالفاتهم المتكررة لقوانين محاكم التفتيش، فكانت تصدر بحقهم عقوبات مالية بشكل مستمر للمساهمة في إفقارهم.
تسبب سخط محاكم التفتيش على حالة هورناتشوس إلى دفع الملك فيليب الثالث لإرسال مبعوثه غريغوريو لوبيث مادير في الأول من نوفمبر 1608 م للتحقيق في الأمر. جاء تقرير المبعوث صادماً: في هورناتشوس كلها لا يوجد سوى أربع شيوخ نصارى، وباقي السكان يجهرون علناً بإيمانهم بالدين المحمدي ويختنون أبناءهم قبل العقيقة، كي يقولو أنهم ولدوا على ذلك الحال، بالإضافة إلى غياب لحم الخنزير من أسواقهم وبيوتهم، وحرصهم على صيام رمضان، وامتلاكم لمصاحف القرآن ومسجد سري، وجهلهم “اللغة المسيحية”، أي الإسبانية.
في 16 يناير 1610 صدر قرار طرد الحرناشيين من الاندلس، فنقلوا الى اشبيلة في انتظار ترحيلهم، حيث كانوا ملزمين بدفع ثمن نقلهم الى الشواطئ الجنوبية للمتوسط، فباعوا امتعتهم بأثمنة بخسة وتكافلوا فيما بينهم حتى لا يبقى منهم مشرد في اسبانيا، وصل الحرناشيون الى المغرب واستقروا بمدينة تطوان، غير ان انضباطهم ونظامهم أثار تخوف الكثير من المسؤولين فتم توطينهم في قصبة الوداية المهجورة، التي قاموا باعمارها. فأسسوا بها سنة 1614م جمهورية على مصب نهر أبي رقراق، فاحتكروا ومن معهم من الأندلسيين تجارة العديد من السلع، بفضل اعتمادهم على القرصنة البحرية، التي كانت تزود السوق. وصل مجال عملياتهم إلى جنوب غرب إنكلترة وآيسلندا، وكان لهذا النشاط طابع سموه بالجهاد البحري الذي تميز عن اللصوصية البحرية العادية.