وقد شلت مظاهرات ضخمة على مدى أزيد من شهر العديد من المدن الجزائرية، وخاصة بمنطقة القبائل، للمطالبة بالنهوض باللغة الأمازيغية، حيث أصبحت التجمعات والمسيرات ومقاطعة الامتحانات والإضرابات تؤثث المشهد اليومي للجزائريين، المنهكين أصلا بغلاء المعيشة جراء أزمة اقتصادية ومالية لم تكشف بعد عن كل أسرارها.
وما يزال وقع الصدمة، التي تسببت فيها صور القمع الدامي للأطباء المقيمين، قويا، خاصة وأن الأمر يتعلق بتدخل عنيف في حق أطباء تلقوا تكوينا علميا ليخففوا من الآلام.
وكان آلاف الأطباء المقيمين وغيرهم قد شاركوا بمدينة وهران في مسيرة وطنية، اكتست طابعا خاصا بعد قمع الشرطة، الذي تم شجبه على نطاق واسع، لمحاولة تنظيم مسيرة بالجزائر العاصمة، وجاء رد الفعل على الميدان من قبل العاملين في قطاع الصحة.
ويرى العديد من الملاحظين، أن عدم اكتراث النظام ببعض جوانب الحياة الاجتماعية، نابع من ميله إلى الدفاع عن الحكم، علما بأن الأطباء، وخاصة أولئك الذين يعملون في القطاع العام، لا يدخلون على الإطلاق ضمن اهتمامات السلطات، التي سبق لها أن لجأت سنة 2011، إلى قمع الأطباء والاستعمال المفرط للعنف في حقهم، لتضرب بهم المثل لكل من سولت له نفسه التظاهر في العاصمة، التي تشهد حظرا للمسيرات الاحتجاجية منذ 17 سنة.
غير أن الأطباء الذين لم تفتر عزيمتهم، إذ بعد شهرين من الإضرابات الدورية، التي تحولت إلى إضراب مفتوح، حاولوا الخروج، الأسبوع الماضي، في مسيرة باتجاه المجلس الشعبي الوطني لاطلاع النواب على مطالبهم، قبل أن "يتم قمعهم بوحشية".
وردا على "هذا الاستفزاز الإضافي"، خرج آلاف الأطباء المقيمين في مسيرات بالعديد من المدن الجزائرية، وخاصة وهران والجزائر العاصمة، للتنديد بتجاهل الحكومة للمطالب المشروعة وتضامنا مع زملائهم بمستشفى مصطفى باشا.
وسار المحتجون خلف لافتات كتبت عليها شعارات، من قبيل "احترام، كرامة، تضامن"، و"إضراب، تغيير، تحسين"، حيث لم تعد القضية مقتصرة على الأطباء المقيمين، وإنما أصبحت قضية الجميع، أطباء داخليين، وخارجيين، أساتذة وأساتذة مساعدين، الذين يمارسون عملهم في قطاع يحتظر.
وصرح أحد الأطباء المقيمين من مصلحة أمراض القلب بأن "الأمر لم يعد قضية مطلب، أو حقوق، وإنما أصبحت قضية شرف. نحن هنا لنقول إن الشعب لم يعد ينطلي عليه الخداع، ولكن أيضا لنؤكد للحكومة أن الطبيب الجزائري يستحق الاحترام، وأن نصغي له ونحاوره عوض قمعه".
وقوبلت هذه الوحشية باستنكار الأحزاب السياسية ومنظمات حقوق الانسان والمجتمع المدني، على اعتبار أنها تلخص لوحدها الرد الوحيد الذي تعرف السلطات الجزائرية تقديمه عندما يعبر الجزائريون عن غضبهم. فبدل فتح الحوار، يفضل النظام الجزائري استعمال الهراوات. ويرى البعض أن صور الأطباء وهم يحملون آثار الضرب الذي تعرضوا له تعكس هوية الدكتاتوريات الأكثر فظاعة والتي لا تعرف من حقوق الانسان سوى القمع الوحشي، ورجال سلطة لا هم لهم سوى إخضاع الآخرين بقوة الهراوات.
ويعتبر آخرون أن ذلك يشكل جزءا من ثقافة، بل وحتى طبيعة نظام لا يترك أي فضاء للتعبير السلمي لمجتمع، هو في حاجة لذلك أكثر فأكثر. وبرروا ذلك بكون "الشرطة لا تفعل سوى تطبيق التعليمات الصادرة من سلطات عليا في هذا المجال، بصرامة زائدة عن اللزوم ". ويذهب بعض الملاحظين إلى أبعد من ذلك مؤكدين أنه "لم يعد بإمكان النظام التبجح بالحديث عن احترام حقوق الانسان ولا ينبغي له أن يثير موضوع احترام الحريات الفردية والجماعية التي انتهكها واعتدى عليها".
فالبلاد، التي تواجه أصلا أوضاعا صعبة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، توجد في طريقها لتشهد المزيد من الاحتقان، خاصة مع دخول إجراءات التقشف التي نص عليها قانون المالية لسنة 2018 حيز التنفيذ.
وإذا كانت الجزائر تمر بأزمة سياسية ومالية لا يمكن لأي أحد أن ينكرها، فإن الأطباء الذين يشكلون جزءا من نخبة المجتمع، لا يتعين معاملتهم وكأنهم عديمي الجدوى. فحالة الاستياء تزداد حدة وقد تؤدي إلى شلل تام لنظام معتل، وهي تعكس حالة غير مسبوقة تؤشر على سوء ينبغي التعامل معه بجدية، بما أن الأمر لا يتعلق لا بأياد خارجية ولا باستغلال سياسوي وبدرجة أقل بتقلبات أمزجة وأهواء المحتجين.