لا يعنينا هنا هذا الديوان الشعري، إلاّ بما يُتيح لنا من إمكانية للحديث عن الزلزال الذي ضرب بقوّة مدينة مراكش وإقليم الحوز بشكل كامل ووصلت ارتجاجاته بمختلف المُدن المغربيّة، بعدما ترك الزلزال هلعاً كبيراً في نفوس الناس ووجدانهم.
كُنت واقفاً مع صديقي محمّد بمدينة الفقيه بن صالح ونحن نتحدّث عن معايير الجمال في العصر الوسيط، وإذا بالأرض تدور وترقص ونحن نتحدّث. في لحظة ما نظرّ إليّ وابتسم على أساس، إذا ما كُنت قد أحسست بشيء في هذه اللحظة، فأخبرته أنّي أبادله نفس الشعور. افترقنا ونحن نضحك. في تلك اللحظة تصلني على الهاتف رسائل من الأصدقاء من الدارالبيضاء ومراكش وطنجة والرباط وسلا يُخبرونني بزلزال مُعدّله 6.7 ضرب المغرب وأنّ مراكش هي البؤرة المركزية له وبالضبط في إقليم الحوز.
أجري وأسقط من شدّة الفزع. أدخل البيت أرى جدّي يبتسم ويضحك من هلع خالتي وأمي. أصرخ في وجهه. أحمل دراجته الهوائية المُنهدّة أركبها بطريقة سريعة وأذهب إلى مركز الإنعاش والعناية الصحية لرؤيتها. في الطريق ألمح بشراً وقد استبدّ بهم الخوف أكثر مني. نساءٌ ورجالٌ خرجوا من بيوتهم وجلسوا على أرصفة شارع الحسن الثاني في مشهدٍ سوريالي لا يوحي لك إلاّ بالنزوح والحروب والمجاعات. مشهدٌ لم أرى مثله في حياتي. دقّات قلبي تسبقني. البعض يضحك والبعض يصرخ والآخرون يتحدّثون في هواتفهم الذكية ويبكون. كيف نحمي أنفسنا من الزلزال؟ كيف نُصدّق أنّنا تعرضنا إليه فعلاً؟ المسافة
بين بيت جدّي الذي تربيت فيه وقضيت كلّ طفولتي، عن المستشفى الذي ترقد في جدتي لا يتعدى 10 دقائق. هذه المدة كانت كافية لأعرف إنّي لست شجاعاً كما يُخيّل إلي. أصير ضعيفاً أمام جدتي. أخاف أنْ تضيع منّي. يدها تحرسني. بركاتها تُظلّل جسدي. كلّما وقعت في مشكلة أشعر بأنفاسها معي. شعور غريبٌ خيّم على نفسي وأنا على الدراجة الهوائية، شبه عارٍ من الفوق ونسيم عليلٌ يُداعب شعري وجسدي.
ذهب بي شريط الذاكرة إلى الطفولة أتذكّر كيف كات تبحث عني في ملاعب كرة القدم وفي الحدائق العامّة في أوقاتٍ متأخّرة من الليل. أتذكّر ضربها ليلاً وقبلاتها وعناقها في الصباح. جدّتي قويّة وصلبة أكثر من الزلزال. امرأة حديدة تعرف كيف تُطوّع الألم وتختبر وجعه في جسدها. لعشرات السنوات حملت لي من إيطاليا آلاف كاسيتات الأفلام وأغلقت عليّ طيلة حياتي داخل بيتٍ في السطح مكسو بالجير الأبيض، به تلفاز وآلاف الأفلام والكتب والجرائد القديمة والمجلات. عشنا معاً، ذُقنا مرارة الألم والخوف من المستقبل. لكنّها جعلتني مسافراً بشكل دائم صوب عوالم المتخيّل وعلمتني كيف أهرب من الواقع صوب الخيال، على أساس أنّ هذا الأخير يُضمر في ذاته بعضاً من الواقع.
عبر المسافة بين البيت والمستشفى اكتشفت كم أنا ضعيفٌ أمام جدتّي. إنّها نقطة ضُعفي وحزني ومماتي. صُوَرٌ معيّنة ترتطم بالذاكرة فأستعيدها وأنصرف إلى أخرى بسرعة.
سلكت طريقاً مُظلمة، من بعيد أراني فوق دراجةِ هوائية وقمر خجول يُظلّل طريقي. أسمع نباح كلاب ومواء قطط تأتي من خلاءات موحشة في طريق « الياسمين » فأشعر بالهلع. أتخيّلني ذاهبٌ في اتجاه الموت. بعد دقائق وجدتني وجهاً لوجه أمام المستشفى. ضوءٌ ناصع. وجوهٌ عابسة وأخرى تبدو وكأنّها خارجة من قبر. البواب يمنع الناس من اقتحام المبني. لمحت ممرضاً يدخن سيجارته باضطراب. رشوته بأخرى شقراء. لمعت عيناه، قال لي: «أنا أعرفك، أنت كاتب المدينة» فكرت للحظةٍ، على الأقل يعرفني حرّاس المستشفيات وحراس المقابر.
ابتسمت في وجهه أخذني من يدي مثل الطفل. غمز حارس البوابة دخلنا معاً. بهذه الطريقة تسللت بين المرضى وأنا أمشي بخفة، حتّى لا يراني الأطباء.
صعدت الطابق الأوّل من ناحية الدرج المُظلم حتّى لا يراني أحد. ثوانٍ قليلة وجدت نفسي أمام غرفة جدتي. اقتربت منها وهمست في أذنيها وقبلت خذها. استيقظت والابتسامة تعلو وجهها. أخبرتني إذا ما كُنت قد أحسست بهزّة أرضية. أخبرتها أنّه زلزال ضرب المغرب وأصاب مدينة مراكش وأنّ دبيبه وصل إلى مدن أخرى كثيرة منها مدينتنا وأنّ الأمور على ما يرام. سألتني عن جدي أخبرتها أنّه بخير ويضحك. قالت لي: لقد وجد شيئاً يتسلى به. ضحكنا معاً حتّى نامت.
على جانب السرير، أجلس وحيداً قرب جدتّي. أنظر إليها وإلى حالي وحال العالم. مسافاتٌ غريبة تفصل بين الموت والحياة، بين الفرح والحزن. ماذا نكون نحن البشر داخل هذا الوجود؟ أجسادٌ مُعلّقة تعيش وهماً بالقوّة والاكتمال.
قبل أنْ أترك جدتي تنام لوحدها في ليلة البارحة: قالت لي بتلقائية: شعرت بالخوف عليكَ.. انتظرته.. كُنت أعرف أنّك ستأتي كعادتك.. لكنّي لم أهرب.. حتّى لا أساعد الزلزال.