والحقيقة أنّ هذه الدعوة رغم أنّها ارتكزت على «نيّة» الاستفادة من خبرات الأساتذة المتقاعدين بعد سنوات طويلة قضوها في التدريس، تظلّ غير صحيحة، وكانت تحتاج على الأقل إلى إعادة التفكير في منطلقاتها العلمية وما تطرحه من أسئلة حول جدوى استرجاع عدد من المتقاعدين إلى حجرات الدرس، في وقتٍ يعاني فيه آلاف الشباب من البطالة وهي تنخر أجسادهم، أمام تقارير صادمة تصدر عن مؤسسات وطنية ودولية. وقد بدت الدعوة منذ ساعاتها الأولى بالنسبة لعددٍ من الأساتذة والباحثين مجرّد جهل ينم عن عدم التفكير في المشاكل الحقيقية التي يعاني منها القطاع التعليمي.
إذْ يستغرب المرء فيما يمكن أنْ يقدّمه شخص متقاعد وصل إلى أرذل العمر، بعدما قضى أكثر من 40 سنة داخل وظيفة لم يعُد يؤمن بها. على هذا الأساس، لقي الإعلان موجة نقد واسعة وسط المهتمين بالسياسات الإصلاحية التعليمية، حيث وصفته بالارتجالية، مفككة مختلف القرارات التعليمية غير الموفقة التي تزيد الوسط التعليمي يوماً بعد يوم تهميشاً وغربة. خاصّة وأنّه في أيام قليلة، بادر الوزير الوصي على القطاع تسقيف سن التوظيف في قطاع التعليم العمومي في 35 سنة، وهو ما أثار غضب فئات عريضة من الخريجين والمعطلين الذي وجدوا في الأمر استمراراً لسياسة التجاهل وعدم خلق حوار فعّال مع النقابات من أجل تدارس تأثير هذا القرار على وضعية الشغل بالمغرب.
وبرّرت الوزارة دعوتها للمتقاعدين أنّ هؤلاء يتوفرون على مناهج تعليمية اكتسبوها طيلة مسارهم المهني داخل مجال التدريس، وبالتالي، فإنّ انخراطهم في برامج الدعم الخاصة بمدارس الريادة من شأنه أنْ يرفع من قدرات التلاميذ على التعلّم ويدعوهم إلى الانخراط في دروس الدعم الموسّع من أجل تحسين نتائجهم ومردودية تعلّمهم. ورغم أنّ فريقاً آخر أقرّ بنجاعة الإعلان، بحكم انتمائهم إلى نفس المجال التعليمي، فإنّ السؤال يظل مطروحاً حول كيفية الاستفادة من أساتذة كان معظمهم يفكّر في ترك المجال، قبل وصوله إلى سن التقاعد، بعد العشوائية التي أصبح يتخبّط فيها القطاع في الـ 20 سنة الأخيرة والتي يبدو من خلالها التعليم وكأنه عبارة عن مسلسل من الإصلاحات الفاشلة التي تدور في حلقة مفرغة وغير مؤثرة في مناهج التعليم وبيداغوجياته.
فأغلب الإصلاحات الجديدة التي تأتي على يد وزير جديد تجُبّ التي قبلها، فيُحاول دائماً الوصي الجديد، محاولة إنجاز بيداغوجيا حديثة وأوراش جديدة وأجندات مختلفة لكنْ من دون أيّ أثر يُذكر داخل الوسط التعليمي.
وفي الوقت الذي يشرح فيه برادة الأسباب التي كانت وراء هذه الدعوة والمتمثلة في الشح الذي تعاني منه الوزارة في بعض المواد، يتساءل مجموعة من الناس حول سبب عدم «إدماج» بعض الوجوه الشابة المتخصصة في مجال التدريس وعلوم التربية، بحكم أنها تنتمي إلى نفس المجال المذكور، بما يجعل الوزارة تساهم بشكل أقوى في خلق فرص شغل صغيرة وتجاوز محنة التوظيف التي يعاني منها الحاصلون على شاهدات عليا من المعاهد والكليات والمدارس الخاصة بمهن التدريس.
وبغضّ النظر عن الساعات القليلة التي سيتكلّف بها المتقاعدون من أجل سد الخصاص، يظل السؤال مطروحاً حول الفئة العريضة من المعطلين، ممن سبق لهم وأن حصلوا على شواهد، لكنْ لم تعطى لهم أيّ فرصة للاشتغال. إنّ آفة التعليم العمومي أننا لم نستطع منذ الاستقلال خلق مشروع تعليمي حقيقي عصري وأكثر انفتاحاً على التحولات التي يشهدها المشهد التعليمي في العالم، ذلك أنّ تاريخ التعليم يبدو في مجمله عبارة عن تاريخ لسلسلة من الإصلاحات، إذْ رغم النزعة التحديثية المسيطرة على الخطابات التعليمية، إلاّ أنّ البنية التقليدية تبقى على حالها وغير قادرة على بناء مشروع تعليمي يخرجه من الأزمة التي يتخبّط فيها.
إنّ مشهد دعوة المتقاعدين واستدراجهم للعودة إلى حجرات الدرس وإنْ كان كنوع من الانخراط في الدعم الموسّع، يضمر بشكل جوهري العطب الذي ما يزال ينخر الجسد التعليمي ويوضّح بشكل قويّ ضعف الجهة الوصية على التعليم وعدم قدرتها على ابتكار أفكار جديدة مغايرة يتم من خلالها تقديم إصلاح دقيق للمنظومة التعليمية.



