يشعر المرء بنوع من الغبن حين يرى أجندات سياسية فارغة من الثقافة، يبدو فيها رجل السياسة بمنأى عن الثقافة، فهي بالنسبة له مجرد إكسيسوار أو وهم، يحاول مراراً ترويجه وبيعه لفئة كبيرة من الطلبة والباحثين والمثقفين، لكونه يعرف مسبقاً ما تمثّله الثقافة بالنسبة لهذه الفئة من المجتمع، على أساس أنّها المختبر الآسر الذي به يحتمون من فرط التشابه ويؤسسون لذواتهم تجارب مختلفة عن كلّ الشرائح المجتمعية الأخرى. إنّ رجل الثقافة وإنْ كان مهمّشاً ومنبوذاً في تاريخه ومجتمعه وواقعه، يظلّ شخصاً مختلفاً وغير مرغوب فيه.
فهذا الاختلاف، يشكّل مصدر قلقٍ للآخر، لأنّه بالنسبة له مصدر إزعاج، لأنّ المثقف يدخل دائماً في عملية تعرية الواقع ونقد الأفكار السطحية واليقينيات المميتة التي تُعطّل العقل وتسحب منه قوّته وقدرته على التفكير في الواقع، حيث يغدو الفكر منبطحاً وجامداً وغير قادرٍ على صياغة أفكار ورؤى وتصوّرات أو حتّى مواقف ملتزمة تليق به كإنسان حر.
لذلك يجد الآخر في الرأسمال الثقافي شكلاً من البذخ الرمزيّ الذي يبدو له أنّ المجتمع لا يحتاجه ولا يرغب فيه، في وقتٍ تشتدّ فيه مطالب شعبيّة تُطالب بالعمل والسكن والخبز والماء. وإذا كانت هذه المطالب صادقة ومشروعة، فإنّ الثقافة في بعدها المركّب، تظلّ تدخل ضمن المطالب الحيوية والمستعجلة في حياة الفرد وذلك لكون الإنسان، لا يستطيع العيش بدون ثقافة، فهي المرآة التي بها يستطيع أنْ يعكس حقيقة الوجود وتغيّرات الواقع ويومياته. إنّ الثقافة ليست بذخاً رمزياً نحنّ إليه، كلّما شعرنا بأنّ هويتنا الثقافية باتت مستلبة من الآخر ومهمّشة داخل بلداننا، إذْ نرنو إلى الثقافة ونتعامل معها على أساس أنّها إكسيسوار يجمّل حياتنا ويجعلنا نتباهى بها داخل الفضاء العام. في حين أنّ الثقافة تبقى صناعة وذات أفق فكري يحرر المجتمع ويجعله يخرج من مجتمع الغابة، صوب مجتمع متعلّق بالقيم الإنسانية ويؤمن بالفن والجمال.
لا يستطيع المرء أنْ ينكر اليوم، الطريقة التي بها جعلت الأحزاب السياسية اليسارية خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين من الثقافة أفقاً لها. فهي ظلّت تؤمن بالثقافة داخل مشروعها السياسي وحرصت دائماً على إسماع صوت المثقفين وإشراكهم في النقاش السياسي العام. لذلك، يعثر المرء في تاريخ الثقافة المغربية على عدد من الكتاب والنقاد والمفكرين الذين ينتمون إلى أحزاب سياسية بعينها والتي جعلوا منها أداة لتمرير رسائلهم وأفكارهم ومواقفهم في العديد من القضايا ذات الصلة بالثقافة والسياسة والمجتمع.
ورغم حرص بعض المفكرين في بداية مسارهم الفكري على محاولة خلق نوع من الحدود بين السياسة كممارسة وتدبير للشأن العام، وبين الثقافة كأفق لا يمكن فصله عن المشروع السياسي، تظل حدود التقاطع والتلاقي بين ما هو ثقافي وإيديولجي واضحة المعالم والرؤى، خاصة على مستوى الموضوعات التي يطرقون بابها والأفق التحرري الذي من خلاله يفكّرون ويبحثون لأنفسهم عن أجوبة لأسئلة تظلّ معلّقة.



