يأتي هذا الاختيار وعياً منهم، أوّلاً، بالحظوة المادية التي أصبحت تطبع هذا الجنس لدى المؤسسات الثقافية العالمية من خلال جوائز وتكريمات في كلّ الأقطار العالمية تقريباً. وثانياً بسبب الرمزية التي باتت تتنزّلها والتي تجعل كلّ من يكتب رواية، مهما كانت جيدة أو رديئة (لا يهمّ)، فإنّها تلقى « صدى » طيباً لدى القضاة (النقاد) فيُحوّلون النصّ الضعيف إلى الأصيل ويواصلون وفق هذا المنزع النقدي في تفكيك المتون الروائية وإقناع الناس بما تنضح به من أساليب وميكانيزمات وجماليّات.
وغالباً ما تبدو الكتابة النقديّة هنا، وكـأنّها قابلة أنْ تُسقط على كلّ النصوص الأخرى، سواء كانت روائية أو قصصية، طالما أنّ القاضي يملك من الفطنة، ما يجعله يتحايل على فعل الكتابة ويمارس معها نوعاً من الغواية التي تصبح سهلة بين أنامله.
إنّ التضخّم الذي تعيشه الرواية اليوم ليس صحياً بالمرة، لأنّه يلعب دوراً سلبياً في التسويق لنماذج أدبيّة غير صالحة للقراءة. بل إنّ المثير في هذه العملية أنّ عملية الترويج للرواية على حساب الشعر الذي وإنْ كان يُطبع ويُنشر في العالم العربي، فإنّ الاهتمام به أصبح قليلاً مقارنة بالرواية. لقد ظلّ الشعر منذ نهاية ستينيات القرن الـ 20 بمثابة علامة بارزة في تاريخ الثقافة العربيّة المعاصرة وذلك بحكم الدور الكبير الذي لعبه، سواء من الناحية السياسية الإيديولوجية التي جعلت زمرة من الشعراء ينسجون قصائدهم، انطلاقاً من حرارة الواقع اليومي خلال السبعينيات أو بسبب قيمته الجمالية في محاولة التعبير عن الذات، كما تُطالعنا العديد من القصائد الثمانينية ورهانها الدائم على ما سمّاه الشاعر الفلسطيني محمود درويش بـ « الشرط الجمالي ».
في الحالة الأولى كان الشعر عبارة شهادة حقيقة تجاه الواقع وصرخة في وجه الاستبداد والظلم والحيف والقهر الذي طالما عانت منه الشعوب العربيّة. في هذه اللحظة كانت آلاف الدواوين تخرج للوجود وتحفر مجراها عميقاً في الذات الفردية وتدفع الناس إلى الاهتمام بالشعر وحفظ العديد من القصائد والتغني بها كشعارات في دروب النضالات الثقافيّة وسراديب السجون الباردة.
ورغم أنّ الشعر في هذه اللحظة التاريخيّة بدا وكأنّها عبارة عن بيان سياسي أكثر من كونه قصائد جمالية، فإنّ العديد من التجارب الشعريّة ظلّت تؤمن بالقوة الناعمة للشعر حتّى وإنّ طفت الإيديولوجيا على سطح الكتابة الشعريّة. لكنْ مع التجربة الثمانينية (الحالة الثانية) سيتخلى الشعر عن التزامه الإيديولوجي ليغدو التزام الحقيقي للشاعر كامنٌ في التزامه بالنمط الجمالي وبمعايير الكتابة الفنية داخل البناء الشعري، حيث أصبح الشاعر يعطي للبعد المعرفي أفقاً كبيراً في بناء شرعية القصيدة. في مقابل هذا الماضي التليد لا نعثر على أثر كبير للرواية مقارنة بالشعر، حيث اعتبرت من لدن الشعراء بمثابة « ملحمة للبرجوازية » على حد تعبير الفيلسوف الألماني هيغل.
لكنْ لا أحد تخيّل أنْ تغدو الرواية بمثابة موضة بالنسبة للمفكّرين والشعراء وهو يكتبون الرواية ويفوزون بجوائزها التي تتناسل مثل الفطر، مخلفة وراءها الكثير من الأسئلة الحرجة حول مصير الشعر في زمن لا يعترف به.
على هذا الأساس، فإلى وقتٍ قريب، لم تكُن الرواية « موضة » كما هي اليوم في العالم، مع العلم أنّ الرواية نفسها تبدو مهدّدة من طرف بعض مظاهر الترفيه والاستهلاك وأعني السينما والتلفزيون. فقرّاء الرواية كثيرون مقارنة بالشعر الذي يعتقد أهل الثقافة أنّه لا يُقرأ، مع أنّه في بلدان أخرى مثل فرنسا وأميركا وألمانيا وإسبانيا، ما تزال الكتابة الشعرية لها جمهورها وما يرافق أنشطتها من كتاب وصحفيون وناشرون يراهنون على ألق الكلمة الشعرية ودفق مجازاتها وجماليات استعاراتها.
إنّهم بلغةٍ أخرى، لا يراهنون على ثقافة البيع الذي تُحوّل الكتاب إلى السلعة (وهو كذلك) قابلة للمفاوضة وتحقيق الربح والخسارة. حين تُراهن دور نشر غربية على نشر الشعر، فهي تُقدّم للعالم نفسها من تكون وطبيعة الرأسمال المعرفي الباذخ الذي تُراهن عليه، من أجل إحداث تغييرات في الواقع أو على الأقلّ تجميل الواقع والقضاء على ما تبقى من مظاهر القبح فيه.



