استهل نائب عميد الكلية وأستاذ التاريخ القديم إبراهيم فدادي الحديث عن أهمية هذا اللقاء الذي سيُساهم لا محالة في خلق جو فكري للحديث هذا العلم، مُعتبراً أنّ هناك نظرة ظلّت تطبع هذا العلم في علاقة بالموضوعات التي يطرقها. وتكمن أهمية هذا العلم في نظره أنّه أعطى قيمة كبيرة للبادية المغربية أمام غياب وثائق تُسعف المؤرّخ على دراستها. ذلك إن المؤرخ عادة ما يهتمّ بالمدينة وينسى القرية، في حين أنّ الأنثروبولوجي يعتبر القرية مجاله بالأساس. ويشير فدادي إلى أنه رغم أن المدن جاءت في أصلها من البوادي إلاّ هناك تعاملاً انتقائياً من لدن الباحثين يجعلهم يهتمّون بالمدينة بدل البادية. لهذا يعتبر أنّ الاهتمام بهذه الفضاءات جزءٌ لا يتجزأ من التاريخ بشكل عام.
أما مدير مختبر السرديات الروائي والباحث شعيب حليفي، فإنّه توقّف بقوّة عند أهمية المختبر واحتفاله بـ 30 سنة على بقاء هذا المختبر في ظروف كانت صعبة، لكنّ حرقة الأسئلة ظلّت متأججة في الدواخل، ما كانت تفرض على كلّ المنخرطين في المختبر لبذل مجهود كبير. وبعد 30 سنة من البحث العلمي أصبح المختبر أشهر المختبرات في الجامعة المغربية، لكونه وضع حجر الأساس على كثير من القضايا والإشكالات ذات الصلة بالأدب. وفي نظر صاحب « لا تنسى ما تقول » بأنّ أهمية هذا الملتقى الخاصّ بتوثيق تراث الحواضر أنّ الأنثروبولوجيا تبق العلم الوحيد القادر على تأصيل التجربة التراثية المغربية، لكونها تملك من المناهج والمعارف، ما يجعلها تغوص في هذه الحواضر المنسية والصامتة على حد تعبيره والمهمّشة واللامفكّر فيها. فالأنثروبولوجيا في نظر حليفي تُجدّد أسئلتنا تجاه الحاضر وتدعونا إلى السفر في متخيّل البوادي واستقراء مكبوثها.
أما الباحثة الأنثروبولوجية حياة الزيراري التي أشرفت على تنسيق هذه المحاضرة الافتتاحية. فقد تطرقت إلى أهمية حسن شريق وخصوصية أبحاثه العلمية في مجال نادراً ما يتطرّق إليه الباحثون. واعتبرت الزيراري أنّ أبحاث رشيق ساهمت في تقدم المعرفة الأنثروبولوجية وجعلتها كباقي المعارف الأخرى. بل إنّ الباحث كان سباقاً إلى لفت الانتباه لثنائية البعيد والقريب داخل الأنثروبولوجيا المغربية، مُعتبراً أنّ القريب يصلح أيضاً لتفكير أنثروبولوجي. هنا تتحوّل الأنثروبولوجيا عند رشيق إلى عبارة عن تفكير يوميّ وليس مناسباتي. تفكير يروم إلى النظر وتأمّل طبيعة الحياة اليوميّة وفق رؤية أنثروبولوجية تسعى جاهدة إلى القبض عن اليومي.
جعل رشيق مداخلته تبدو عبارة عن دروس قيّمة موجهة للباحثين والطلبة المنشغلين بالدرس الأنثروبولوجي. وفي مستهل محاضرته اعتبر أنّ أولى محاضرة ألقاها في حياته كانت من كلية الآداب وبالتالي، فهو « فرحان » على حد تعبيره للعودة إلى الفضاء الذي طرح فيه أوّل أسئلته العلمية عام 1988. وأشار رشيق أنه مثل هذه الدروس الافتتاحية دائماً تُسبّب له مشكلة على مُستوى، لأنّها تجعله حائراً من أين سيبدأ للحديث عن علم الأنثروبولوجيا والحرص على ذكر كلّ شيء يتعلّق بتجربته بهذه الممارسة العلمية. إنّ الأمر في نظره متعلّق في نظره بطبيعة المواضيع التي ينبغي تقديمها للطلبة والباحثين وأهميتها في خلق نقاش حقيقي يستفيدون منه. ويرى حسن رشيق أنّ البحث الأنثروبولوجي مرتبط بالميدان وليس بالمكتبات. هذا الأمر، استوعبه باكراً وحاول تطبيقه من خلا زياته الميدانية المتعدّدة للكثير من مناطق المغرب. هذا الامر في نظره يقود الأنثروبولوجي إلى تقديم أعمال حقيقية مستمدّة من الميدان وليس الكتب. فهو لم يختر طريقة الكتب والكتابة داخل المكتبات، بقدر ما خرج للميدان وحاول أنْ يستنطق الفضاءات المنسية بمختلف القضايا التي تطرحها مثل العادات والتقاليد والطقوس والزطاط وغيرها.
أشار رشيق إل أهمية استيعاب المفاهيم والمصطلحات حين نكون بصدد البحث الأنثروبولوجي، لأنّ هذه المداخل قادرة على تزويدنا بحقائق مدهشة تكون مفيدة للباحث من أحجل فهم الفضاء البدوي الذي يشتغل فيه. فالمفاهيم حمّالة أوجه ودائما تكون تخفي وراءها تاريخاً، إنّها أشبه بسير حياة البشر ففي كل لحظة يعرف المفهوم عدّة تحولات تنعكس على المجتمع أيضاً. ورأى بأنّ مفهوم القيم يكاد يكون بمثابة المفهوم الذي يفرض على كل الباحثين طريقة معاينة الموضوع لأنها تُوجّه الذات، مع أنّه من الضروري التخلي عنها لحظة الكتابة، حتّى يبق البحث علمياً وموضوعياً في مقاربة الأشياء والوقائع والأفكار.
إنّ المتأمّل لطبيعة البحوث الميدانية سيجد أنّها تدور في مجملها حول القصص والحكايات والأمثال الشعبية والعادات والتقاليد بطريقة يُخضع فيها البحث هذه المواضيع إلى أسلوب تجميعي تدويني. هنا تتحرّر الانثروبولوجيا من علميتها ودقّتها في تأمّل الموضوعات ومعاينتها ورصد سيرها وتطوّراتها داخل الواقع. وفي هذا الأمر، ما يجعل الكثير من الناس يعتبرون هذا العلم بأنّه علم يدرس الخرافات، أيّ أنه علم يبق ملتصقاً بالهامش. لهذا اعتبر رشيق الباحثين الذين اشتغلوا على القصص والحكايات وعلموا على تدوينها عتقدو أنها عملهم انتهى، مع أنّ السؤال الأنثروبولوجي يكاد لا ينتهي، بل يظلّ منه جسده تنبع أسئلة أخرى تتصل بالفضاء في علاقته بالإنسان.