تعود علاقتي بالصحافي عبد العالي دمياني إلى سنوات الجامعة، في اللحظة التي توطّدت بها علاقتي بالثقافة والكتابة، بعدما بدأت أتعرّف على كتابات دمياني على صفحات جريدة « الأحداث المغربيّة » بملحقها الثقافي الغنيّ. إذْ كُنت أجد في أعمدته الثقافيّة قبل التعرّف إليه، ما يشي بهذا النزوع الثقافي الذي يجعل مفهومه للكتابة أكثر تشعّباً ووعياً بالمناهج والأفكار والمفاهيم والنظريات، إذْ بقدر ما يضع الفكرة / الموضوع في سياقها الصحفي، حتّى يُباغتك تحليل دقيق للواقع يُضمر في خطابه حجم ثقافته وقراءاته وعلاقاته بمؤلّفات عربيّة وغربيّة. إذْ دائماً يُتحفك الدمياني بجديد يُعوّل عليه، لذلك تأخذ كتاباته طابعاً معرفياً، فهو لا يجري لاهتاً وراء الأحداث اليوميّة، ولكنّه يسعى إلى مُطاردة أحلامه وهواجسه تجاه فعل الكتابة والتخييل.
وذلك بطريقة مُذهلةٍ ينقلك فيها صاحب « للريح أسماء أخرى » إلى قراءاته وقضاياه وإشكالاته، دون أيّ يُثير زوبعة إعلامية فارغة أو ريحاً عاتية في المناطق اليباب. فكتاباته لا تعمد إلى النقد لتُثير الأهوال والحساسيات، بل يظلّ الكاتب مُلتصقاً بفكرته وموقفه ويسعى جاهداً إلى إقناع قارئه. فهو لا يُطوّر شكل كتاباته من خلال الجدل، بل عبر فتنة القراءة المائلة التي تأخذ شكل تماهٍ معرفي مع الأشياء والموضوعات والظواهر والإشكالات. حين يكتب الدمياني، يكتب بهدوء ناعم بريء يُخفي حرارة النصّ وتعدّد منابعه الأدبيّة ومُنطلقاته المعرفية التي تُؤسّس شرعية وجوده تجاه فعل الكتابة والألم.
إنّ الذين قرأوا مقالات الدمياني يُدركون ذلك السحر الناعم والمُتوهّج الذي تُمطرنا به. إنّ كتاباته تأتي محايثة، بقدر ما تلتصق بمسام الحدث الثقافي تبتعد عنه في آنٍ واحدٍ، فتُوسّع من مفهوم العمود الصحفي وتعطيه قيمة العلمية الواعية وأصالة الأدبيّة الرمزيّة. لكنّ الذين قرأوه عن بعد ولم يلتقوه لن يعرفوا معنى أنْ تكون صحافياً قديراً تسري في كتاباته لذّة المعرفة ورحيق الأسئلة الحارقة. هو في وجوده جزئي لا يُعطيك وجوداً كلياً، لا بسبب ضعفٍ في شخصيته، وإنّما لأخلاقه الرفيعة وشغفه المُفرط في التواضع الخلاّق الذي يجعله ينفي ذاته في حضرة الآخر. لم تكُن أخلاق عبد العالي دمياني، هي ما قادني تجاه معرفته وصداقته، بل بما تتركه كتاباته من أسئلةٍ بين الأسطر، هذا فضلاً عن اللغة الشاعرية التي يكتب بها فتُحوّل كلّ شيءٍ واقعيّ جامدٍ إلى خبز وهواءٍ وماء.
يُعد الدمياني من الإعلاميين الذي مزجوا في سيرتهم بين الكتابة الصحفية والأدبيّة ونظيرتها العلمية من خلال أطروحة دكتوراه حول الرحلة المغربيّة بجامعة الحسن الثاني بالدارالبيضاء. وهذا الأمر لا يتأتّى لأيّ صحفيّ كان، بل يُظهر حجم التعلق الدائم للكاتب بتكوين نفسه وتطوير أدواته وبناء قُدراته ككاتب وصحفي على مُستوى التحليل والمعاينة والنّظر. ذلك لأنّ الكتابة في الصحافة الثقافيّة، لا تتغذّى سوى على القراءة النوعية من أجل تعلّم أسرار التفكير وقُدرة المناهج المعاصرة على تغيير طبيعة الكتابة وجعلها تتّجه صوب مُنعطفاتٍ جديدة لا تقوى الكتابة الخبرية على تمثيلها والقبض عنها.
ففي الوقت الذي تحبل به الجامعة بأشباه الجامعيين، ممّن تخلوا عن الكتابة والبحث، بعدما جعلوا من الفضاء فُسحة للراحة والاستقرار ومُمارسة نوعٍ من السياحة الثقافيّة على جميع الأصعدة، يعيش كُتاب وشعراء حقيقيون مثل دمياني وسعيد منتسب ومحمّد جليد ونبيل منصر وغيرهم على هامش الجامعة، مع العلم أنّهم حصلوا منذ سنوات على درجات الدكتوراه في الآداب، لكنّهم لم ينتقلوا بعد إلى الجامعة، فيُقدّمون للطلبة والباحثين الجدد خلاصة ما عاشوه منذ نهاية الثمانينيات داخل الأوساط الثقافيّة والأدبيّة المغربيّة، بعدما أصبحت بعض نصوصهم تُدرّس بجامعات وطنية وعربيّة.
حين حصل الدمياني على الدكتوراه، لم يُشعرنا أنّه أصبح رجلاً علمياً رصيناً كما يُروّج له بعض الجامعيين المُتصلّبين، ما دام أنّ فعل الكتابة يبقى هاجسه الوحيد، إذْ ظلّ الرجل حريصاً على تغطية الأنشطة الثقافيّة وكتابة أعمدته الأسبوعية وإنجاز بعض الترجمات المُتّصلة بالأدب والفنّ، عاملاً على تجميل حياتنا الثقافيّة البائسة ومُروّجاً لنوعٍ من الكتابة الصحفية التي تكاد تندثر في زمن المنصّات ووسائل التواصل الاجتماعي، بعدما أصبحت تعُجّ بالأخبار والتغطيات على حساب المقالات الثقافيّة التحليلية الرصينة التي تُظهر صعوبة السؤال الثقافي بالنسبة لأيّ صحفي، لا يعمل على تطوير مهنته عبر الدراسة والقراءة والتكوين والجدل وطرح المزيد من الأسئلة الموضوعية الحارقة.