في الاجتماع الوطني الأخير، وجّه رؤساء شعب التاريخ نقداً حاداً لوزارة التعليم العالي بخصوص مسألة تجديد مسالك الإجازة، مُعتبرة بأنّ التصوّر الجديد يعتريه خللٌ أساسي يقوم على تغييب الكفايات المعرفية والمنهجية والبحثية. لا يعنينا هنا مسألة تجديد الشعب، وإنْ كانت ذات أهمية، حيث انتقد الاجتماع مدى حرص الوزارة على الإبقاء على مواد عبارة عن مداخل للدراسة والتفكير بعيدة كل البعد عن محتوى مادة التاريخ. والحقيقة أنّ ما تقوم به شعب التاريخ، هو مجرّد تكريس للتفاهة والتقليد، إذْ تحرص وبشكلٍ كلّي على تدريس مواد لا أحد يُريدها، بل إنّها تعيش خارج السياق المجتمعي. فلا غرابة أنْ يجد الطالب للتاريخ نفسه مُعرّضاً لأقصى العقوبات جراء تسجله لدراسة هذه الشعبة، بعدما يجد نفسه عاطلاً عن العمل.
لا يستسيغ المرء مدى حجم اللامبالاة الذي تعانيه شعب التاريخ وعدم قُدرة الوزارة وأطرها التدريسية للخروج بهذه الشعبة من المحن والنكبات التي تُعاني منها. فلا طائل من اعتقال الناس مدة 3 سنوات (الإجازة) وتدريسهم المقاومة المسلحة والحركة الوطنية والسلفية، في وقتٍ يتمّ فيه تهميش الفنون ودراسة المتاحف والأنثروبولوجيا، وهي تخصّصات لها علاقة كبيرة بالتاريخ، لكنّ الأستاذة غالباً ما يرفضونها. لكونهم لم يدرسوها في مسارهم العلمي المتواضع، بحكم ما تتطلّب من تحصيلٍ علمي رفيع يقوم على تعدّد التخصّصات وسياحة طويلة في تاريخ الفكر البشري وإنتاجاته الثقافيّة والرمزيّة، مقارنة بتكوينٍ فقهي لا يتعدّى تحليل المخطوطات وقراءة الوثائق التاريخية.
ليس « المداخل » مجرّد هوامش للمعرفة التاريخيّة، بل إنّها تكاد تكون عين العقل التي بها تُجدّد الكتابة التاريخيّة نفسها، وذلك من خلال الانفتاح على قضايا جديدة تتعلّق بالصورة والمعمار والجسد والتشكيل والسينما والفوتوغرافيا. وهي مواد تُشكّل حداثة بالنسبة للكتابة التاريخيّة، إذْ تخرجها من إعادة التدوير والتقطيع والتلصيق والسرقة.
لا تحتاج شعب التاريخ إلى بيانات واجتماعات وحلقات ونقاشات، وإنّما إلى إرادة سياسية قويّة تُفعّل المطلوب وتضمن للطلبة حقّهم في اجتياز امتحانات داخل وزارة الثقافة والمتاحف وكلّ ما له علاقة بالتاريخ المادي واللامادي، باعتبارهم متخصّصون في المجال، بدل الاقتصار على طلبة معهد الآثار، إذْ رغم تكوينهم الجيّد في البحث الأركيولوجي، إلاّ أنّ الشقّ التاريخي النظري يظلّ هشاً بالنسبة لهم.
كيف يُمكن الرقيّ بهذه الشعبة وطلبتها يبدون وكأنّهم ينتظرون الموت؟ وفي الوقت الذي ينبغي فيه على أستاذة المادة الاحتجاج والدفاع عن الشعبة وإعادة توجيه الطلبة صوب المسار الصحيح، يعمل كلّ شخصٍ على قضاء مصلحته الشخصية للارتقاء في السلّم الوظيفي، غير مُهتمّ لا بالتاريخ ولا بمناهجه ولا بمستقبل طلبته. بل إنّ أغلبهم لم ينشر ولا كتاباً واحداً في حياته، ومع ذلك تجدهم على رأس الشعب ويُوجّهون مقرّراتها الدراسية، مع العلم أنّ وظيفتهم تتجاوز الإدارة والاجتماعات والترتيبات والتلقين، صوب أمور بحثية بامتياز. وهذا الأمر، هو ما يجعل طلبة شعبة التاريخ يعتبرونها « حمار الجامعة » لأنّهم أحسّوا أنّ الجهة المعنية بها غير مكترثة لا بالبحث فيها ولا بمصيرهم داخلها.
يستغرب المرء اليوم، من حرص الجامعة على تسجيل هؤلاء الطلبة ونحن نعرف أنّ البطالة تنتظرهم؟ لماذا لا يتمّ إعادة هيكلة شعبة التاريخ ومحاولة فرض مناهجها وتخصّصاتها داخل مجالات أكثر حيوية؟ لماذا لا نقوم بتهيئة إمكانات للاشتغال لهم داخل متاحف ومديرية التراث ومراكز البحث العلمي؟

