يُعتبر عبد الله العروي، أحد أقطاب الفكر العربي المعاصر وعموداً من الأعمدة التي ينبني ويُشيّد عليها الفكر العربي إلى جانب محمد عابد الجابري وعبد الكبير الخطيبي وهشام جعيط والطيب التيزيني وحسين مروة وغيرهم من المفكّرين الذين أرسوا دعائم الحداثة في الفكر العربي. ورغم الطابع الإيديولوجي الذي ظلّ يطبع ويُؤسّس مسار هذه المشاريع الفكريّة على مستوى التوجّه، العمق الذي ظلّت تنضح به كتاباتهم جعلها الأكثر شهرة وذيوعاً بالعالم العربي.
فحين نتحدث عن مثل هذه المشاريع الكبرى، نكون أمام كتابات أصبحت مثل المختبر الذي فيه تتبلور الرؤى والأفكار وعلى منواله يتم تأسيس نمط آخر من النقد. فقد تركت أفكارهم أثراً كبيراً في الإنتاج الفكري الجديد، إذْ يعثر القارئ على مجموعة من أفكارهم، إما على شكل تبني لها أو الانطلاق منها على أساس أنّها تُقدّم جملة من المفاهيم والأفكار القادرة على تحويلها إلى نظرياتٍ فكريّة قادرة على تشريح الواقع العربي وتأخّره التاريخي في العديد من القضايا المتّصلة بالسياسة والمجتمع والثقافة. حرصت هذه الوجوه الفكريّة على استشكال قضية الحداثة من جوانب فكريّة متعدّدة، مع أنّها ترتكز في مجملها في فهم العطب الذي أصاب العالم العربي وأفراده.
تتميّز سيرة عبد الله العروي بالتعدّد والغنى. فإلى جانب الإمكانات المنهجية المُذهلة والقُدرات التحليلية المتفرّدة، يعيش صاحب « مفهوم العقل » زخماً ثقافياً في ذاته بين الكتابة الفكريّة ونظيرتها الروائية. إذْ حرص منذ سنوات على المشي وفق هذا المنزع على مُستوى الكتابة. وهي عبارة عن تمرينٌ فكري يقوم تتميم طريقة تفكيره تجاه الأشياء والموضوعات والقضايا والإشكالات. فحين يذهب العروي إلى جنس الرواية، فهو يتعامل معها على أساس أنّها فكر وليس مجرّد أدبٍ تخييلي.
ذلك إنّ الرواية كجنس أدبي مفتوح عابر للحدود الأجناسية أعطت للكثير من المفكّرين مثل سالم حميش وعبد الإله بلقزيز وعبد الفتاح كيليطو مساحة كبيرة من ناحية التفكير والتعبير. ففي الرواية يُناقش العروي عشرات من الأفكار المُتربطة بسيرته. بل إنّ تجرأ وعرّف روايته الشهيرة « أوراق » في كونها سيرة ذهنية، أيْ أنّها ليست سيرة ذاتية تُطارد الأشخاص والأحداث التاريخية ودلالاتها من الناحية الدراميّة، بقدر ما تُمثّل سيرة ذهنية تسعى جاهدة إلى رصد ومُطاردة الأثر الفكريّ المُتعلّق بالفكر.
وجاءت محاور الكتاب، كما اقترح بُنيانها كمال عبد اللطيف وفق طريقة انتقائية تُلامس بعمق جوهر فكر العروي كما قدّمه في مشروعه التاريخاني مثل « الدفاع عن الحداثة والتاريخ » و »المشروع الإيديولوجي التاريخاني » و »التأخّر التاريخي، الثورة الثقافية » و »من العقل إلى العقلانية: ضرورة القطع مع التراث » و »لماذا ترجم عبد الله نصّ دين الفطرة لروسو؟ » و »العروي في مرآة الجابري، الجابري في مرآة العروي » و »الفكر الفلسفي في المغرب » و »الفلسفة والهاجس السياسي في عوائق الكتابة » و »عبد الله العروي في مديح النسيان ».
يرى عبد اللطيف بأنّ العروي « لا يكترث للمظاهر السطحية التي تعبر عنها المتغيرات الطارئة، فما يهمه بالذات هو جذور الإشكالات وأصولها، والجذر في نظره قائم في درجة التأخّر التاريخي المتواصل في مختلف مظاهر الواقع العربي، وتجاوز هذا الوضع مرهون في نظره باستيعاب المكاسب التاريخية للبشرية والعمل على إغنائها في ضوء التجارب المحلية ».
إنّ ما المُدهش في كتابات العروي في هذا الصدد، هو قُدرته على تقديم تحليل أصيل لهذا العطب الذي أصاب البلاد العربية. فمنذ كتابه الأوّل « الإيديولوجيا العربية المعاصرة » على النزوع صوب كتابة فكرية حداثية في تفكيرها ومُفكّكة في منطلقاتها وجريئة في تجلّياتها واختيارها لبعض القضايا وإشكالاتها.
على هذا الأساس، سيرصد كمال عبد اللطيف في كتابه الجديد الصادر عن دار المتوسّط في إيطاليا، المسار « الاستدلالي البرهاني في نقد النزعات التراثية والدفاع عن العقلانية ». لذا اعتبر بأنّ كتاب « مفهوم العقل »، يعبِّر بصورة جلية عن القيمة الفكرية العالية لجهود العروي، في دائرة الفكر العربي المعاصر، فإنه يطرح أسئلة متعدِّدة، تتجاوز دائرة تماسُكه النظري وغِنَى معطياته التاريخية، كما تتجاوز دوره البرهاني في إسناد المشروع التاريخاني. وترتبط بمسائل أخرى خارجية، ولا يتوقَّف عندها الباحث، وربَّما اعتقد المؤلِّف في إطار النموِّ الداخلي الخاصِّ لمشروعه، أنها خارج إطار السجال المفيد في نظره ».