خاصّ بـle360: مقتطفات من رواية «مفعول الشيطان» للمُخرج السينمائي هشام العسري (5)

هشام العسري يحمل روايته مفعول الشيطان

هشام العسري يحمل روايته مفعول الشيطان

في 19/04/2023 على الساعة 18:00, تحديث بتاريخ 19/04/2023 على الساعة 18:00

تتعدّد وتتوزّع التجربة الإبداعية لهشام العسري، بين الإخراج السينمائي والتلفزيوني، ثم الرسم والكتابة الروائية. ذلك إنّ مساره الإبداعي متفرّد ويظلّ دوماً مفتوحاً على حدود التجريب وأسئلته المُتشابكة بالواقع والمتخيّل.

وإنْ كان صاحب فيلم « البحر من ورائكم » في روايته الرابعة « مفعول الشيطان » يتجاوز حدود الواقع بكلّ حمولاته السياسيّة وميثولوجياته الاجتماعية، صوب أفكار ميتافيزيقية مُختلفة. غير أنّ الميتافيزيقي هنا، يحضر باعتباره أداة تدين الواقع وتكشف عن أعطابه وتصدّعاته. بل إنّ النصّ يُعدّ بمثابة سفرٍ فلسفي يطرح أسئلة حول الدين والوجود والسلطة والميتافيزيقا في علاقتها بالواقع الفيزيقي الذي ننتمي إليه. فهذا العُمق الفكري الذي تُطالعنا به « مفعول الشيطان » لا نعثر عليه حتّى عند كُتّاب معروفون بالكتابة الرواية ومُتخيّلها. وذلك في قالب حوار يمزج بيت الواقعي والتخييلي، بين ملائكة اليمين والشمال الذي يعملون على تسجيل حسنات وسيئات الإنسان في الوجود.

لقد عمد هشام العسري إلى نفسٍ روائيّ صعب، لا يطرق باب الواقع بطريقة فجّة ومُباشرة يُصبح فيها النصّ تدريباً إنشائياً، بقدر ما ينظر إلى الواقع بعينٍ ميتافيزيقية ما ورائية تسعى جاهدة إلى الإمساك بتفاصيل الملَكين منير وحكيم، عاملاً على إعطائهما صفاة بشرية آدمية، وذلك بهدف تقديم رؤية « أكثر إنسانية للموروث الديني، وتمثل ظواهر بشرية صرفة في مملكة السماء من جهة، والنّظر إلى أحوال الآدميين بغيرية ملائكية قصوى تقتفي أثر الإنسانية بتعقيدها المازج بين اليأس والأمل، التعاطف حدّ التماهي، والأنانية المفضية إلى الخذلان من جهةٍ ثانية، قبل أنْ يلتقي المنحيان في معضلةٍ نهائية تضع الجبن المتواري وراء الواجب المهني في كفّة والتسامي على الشرط الملائكي/الإنساني في كفّة ثانية » حسب كلمة المُترجم.

على مدار 3 أيام في الأسبوع (الاثنين، الأربعاء، الجمعة) يهديكم موقع le360 سلسلة خاصّة مُركّزة ومختارة بعنايةٍ من رواية « مفعول الشيطان » للكاتب والمخرج هشام العسري، والمُترجمة حديثاً من اللغة الفرنسيّة إلى العربيّة من طرف كلّ من سعيد المزواري وهوفيك حبشيان:

المقطع 5:

لا يشق الصمت الذي دعا نفسه إلى طاولتهما سوى صوت الساعة الحائطية المتهالك، ورنين الملعقة في جوف فنجان قهوة هشام. يقدم أفضل ابتسامة في حوزته إلى المهرة التي تبدو مستاءةً وغير مرتاحة، كأنها عاشت للتو تجربة اكتشاف حيضها الأوّل...

هشام: بصراحة، كنت تشعّين بالجمال عندما بلغتِ نشوتك... شمسٌ ساطعة...

المهرة: شكرا...

هشام: لا عليك... يمكنني اصطحابك إلى المنزل إذا شئتِ...

المهرة: لا حاجة لذلك...

هشام: رأيتُ أنك أتيتِ في سيارة أجرة... أعرض خدماتي لتسهيل الأمر عليك... أحاول أن أكون جنتلمان... لقد تشاركنا لحظة من الأبدية، العين في العين، والإصبع في الأحشاء... هذا ليس هيّناً...

يبتسم لها. تستغرق بضع ثوان لتفعّل ابتسامتها...

تنبعث من الراديو أغنية للحاجة الحمداوية تكنس في طريقها فتور اللحظة المرتخية...

« هيَ هيَ جايا تصفار وتخضار هيَ هيَ لايحا السالف عاليزار هيَ هيَ يا ناس معشوقة فالنوار يمشي ويجي حاجتو مقضية جلول

أنا بعدا مقابلة البحر لا يرحل وانا بعدا خايفة حبيبي لا يمشي أنا بعدا خاصني جيلالة ونفيق يمشي ويجي حاجتو مقضية جلول

الله الله يا الله مولانا الفرحان! الله الله يا الله مولانا الشفع! أنا بعدا موالفا نتلف ونصيبو أنا بعدا موالفا نسافر ونغيبو

هيَ هيَ جايا تصفار وتخضار هيَ هيَ لايحا السالف عاليزار هيَ هيَ يا ناس معشوقة فالنوار يمشي ويجي حاجتو مقضية جلول

وخوتنا يا الإسلام! هزو بنا العلام! زيدو بنا القدام! ويلا خيابت دابا تزيان أها بابا أها بابا! وعيط الله تصيب الله آ الحبيبة واهيا »

بينما تلفظ الأغنية كلماتها الأخيرة، يدفع هشام الحساب، ثم يغادر ممسكًا يد المهرة التي تنفلت من عقال الجاذبية كي تتبعه تحت وابل من طلقات أعين الزبائن - من الجنسين - المشتعلة بالغيرة. لقد فاز بالجائزة الكبرى! والجائزة الكبرى يجرّها خلفه مثل حوت سقط صيداً لرماح صيّادين يابانيين في بحر الصين...

يرسم هشام على وجهه ابتسامة مصطنعة ومتزاهية اعتاد على ارتدائها لإذلال الخاسرين، والتّرويح عن جانب روحه المظلم.

لا يزال الصمت مخيماً على الملَكين. يستمر حكيم في بعث إشارات ضوئية طويلة من ابتسامته المبهرة نحو منير الذي لا يفتأ يتجاهلها.

حكيم: هذا ليس عدلاً... ما زلتُ في مرحلة التدريب... لن تتخلى عني وتتسبب في إجهاض مسيرة واعدة...!

يرتدّ إليه صدى أجوف من ملاحظته العاطفية.

يصعد هشام لسيارته رفقة المهرة... سبيّةٌ لحربٍ غير معلنة... ما تزال متجهمة ومتمترسةً خلف قناع زائف من المزاج العكر والجفاء المتعذّر...

تسير سيارة هشام في شوارع الدار البيضاء المكهربة. تمتزج خطوات المشاة مع صرير الإطارات المتواصل على الإسفلت الملتهب بحرارة هذا النهار الذي يعد بصيف ساخن منذ ديسمبر.

يحاول أن يلمس أرجل المهرة أو نتوءاتها، لكنها تمتنع....

هشام: إلى أين آخذك؟

لا تجيب. تمّ استلام الرسالة 7 على 5...

ينظر هشام إلى ساعته ليقيس الهامش المتوفر لديه قبل أن يخنقه حبل مسؤولياته... مطمئنًا، يقوم بدورة كاملة وسط الشارع متجاهلًا الخط المتّصل...

تنطلق صافرة من شرطي مرور مغبرّ كان يتربص خلف جثة سيارةٍ قديمة متروكةٍ بجانب الطريق...

يتوقف هشام ويمتشق ابتسامته المفضّلة، بنكهة اللطف والامتثال هذه المرّة...

الشرطي: أوراقك!

هشام: بكل سرور سيدي الضابط... هل لي أن أعرف ماذا ارتكبت؟

الشرطي: استدرت في الخط المتّصل...

هشام: آه! هذا صحيح! ميا كولبا!

الشرطي: المعذرة؟

هشام: أنا آسف!

يمدّ أوراقه بعد أن دس ورقة نقدية وسطها بحركة خفية. 50 درهماً. لا شيء مشين. يشيح برأسه حتى لا يزعج موظفاً أثناء أدائه مهمّته... مجرّد كليشيهات ومواقف عصية على الوصف.

الشرطي: هل هذه زوجتك؟

هشام: لا، التقطتها من المقهى!

تنظر إليه المهرة بعيون يتطاير منها الشّرر. لا يجد الشرطي شيئاً يعترض عليه أمام ابتسامة هشام المنيرة.

حكيم: هذه رشوة... أليس كذلك؟

منير: كلّا، مجرّد إكرامية.

حكيم: هذا أسوأ... فسادٌ تحت غطاء الكرم!

منير: أنا لا أكلّمك!

حكيم: ساعدني أرجوك... نحن سوية في هذا القارب... إذا غرقت، تغرق معي... هذا ليس الوقت المناسب لتغضب من كل ما أقوله لك...

منير: لكن ينبغي أن تسحب اتهاماتك!

حكيم: سأسحب...

منير: الآن!

حكيم: أنا أسحب!

منير: شكرا... هذا يريحني...

حكيم: إذن... رشوة... أسجّل؟

منير: لا هذا بقشيش بسيط... لا شيء...

حكيم: لم أسجل شيئًا حتى الآن...

منير: لا داعي... سيقع قريباً في الشّباك بكامل إرادته...

حكيم: هل ترى المستقبل أنت؟

منير: نعم!

حكيم: كيف يمكنني تفعيل هذا الخيار؟

منير: يتعين عليك أن تكون صاحب رؤية في الأساس... هذا ما تفتقر إليه... أنت بالأحرى كادح... جادفٌ في قاع السفينة... الله يحب الكادحين... إنهم مطمْئنون ويمكنك الاعتماد عليهم... ولهذا هم كثرة... أما أصحاب الرؤية فسرعان ما يفقدون الحظوة، وينتهون بالاختفاء من الصور الرسمية...

حكيم: مثل من؟

منير: مثل إبليس!

حكيم: هذه هرطقة...

منير: كلا، لا يمكنك إنكار الوقائع الكونية التاريخية...

حكيم: لا أرغب في الدخول في نقاش سياسي...

منير: هو الوحيد الذي رفض السجود لآدم... الوحيد الذي أصاب في رؤيته...

حكيم: لا أريد الخوض في ذلك...

منير: ألستُ محقاً! انظر إلى حالنا اليوم... نحن الملائكة عالقون على كوكب النفايات هذا مع مجموعة من المعتوهين المثيرين للاشمئزاز... نعدّ النّقاط وفق تصرفاتهم الغبية كحكّام مباراة تنس بين لاعبين مبتوري الأيدي... كان من الممكن أن نُستخدم في شيء أكثر نبلاً... أفضل مكافأة … أليس كذلك!؟

حكيم: تجديف...

منير: لا، الشيطان هو الوحيد الذي تنبّأ بالكارثة المقبلة... بمجرد أن رأى شكل آدم، أدرك أنه ليس أهلاً للثقة... ولم يخيّب كيس اللحم آماله في نهاية المطاف...

حكيم: لا تكن قاسياً!

منير: بالعكس، أنا متعاطف... أحب أبناء آدم... أتأثّر لرؤيتهم يسعون في الحركة مثل ذباب فوق بركة آسنة معتقدين أن العالم في حوزتهم... كيف يتناحرون في سبيل من سيتناسل أكثر... ويثقون بكل كلمة حلوة يُهمس بها في آذانهم... كيف ينفقون كل طاقتهم في إفراغ السوائل عن طريق التبول والتبرّز والبكاء وتسييل اللعاب والقذف والتعرّق والبصق... كيف يستمعون لكل من علا صخبه... فقط لأن الله أراد أن يتسلى، فخفض صوتَ العقل...

حكيم: كُفر!

منير: هل تعلم أن هناك من بني آدم من يعبدون الشيطان؟

حكيم: زندقة عظمى!

منير: يُطلق على ذلك « بدعة الكاثار »... إنهم ممتنون للشيطان لأنه كان الوحيد الذي ناقض الله... فانتهى الأمر بنزول أبناء آدم إلى الأرض، والحكم عليهم بحياة من القلق والمعاناة، العنف والغضب...

يلوذ حكيم بالصمت.

منير: ليسوا كلهم أغبياء، أبناء آدم... لقد فهموا أن هناك، رغم كل شيء، تناقض في فكرة عالم مصنوع بكمال وبهدف الاكتمال، يجد البشر أنفسهم فيه مثل حشرات تنهب... تتعفن... تفسد... وتنخر... رغماً عن أنفهم... كل الحيوانات تفرغ أحشائها... وحدها أحشاء البشر فاسدة لدرجة النتانة... يمكن للكلب أن يأكل فضلاته... وتستخدم فضلات وروث الحيوانات الأخرى لتخصيب التربة... وحدهم البشر يظلون عالقين في برازهم المرَضي...

يزداد صمت حكيم توغّلاً في الحرج وقلّة الحيلة.

منير: قد لا تتفق معي... ولكن لطفي كان محقًا في القفز من القارب على الأرجح...

حكيم: بدأت تغوص في الاكتئاب مرة أخرى...

منير: لا أبداً، هذه واقعية...

حكيم: عن أي واقعية تتحدث... نحن ملائكة من المستوى المتدنّي مكلفون بحساب النقاط للبشر... أن نحدّد من يستحق ماذا.

منير: وكأنك تتحدث عن إجراء نازي... على اليمين من سيذهبون إلى غرفة الغاز، وعلى اليسار من سيُتركون على قيد الحياة في معسكرات الملل!

حكيم: تدنيس!

صمتٌ مطبق.

يراوغ هشام على الطريق فيتعرض صدر المهرة للاهتزاز. لقد اقتطع ذلك الشرطي الغبي عشر دقائق من غارته الجنسية المقبلة. يحاول استدراكها بمفعول علبة السرعة العاكس للزمن...

يتشبث الملكان بهالتيهما حتى لا تلفظهما السيارة...

منير: لا، ما أقوله ليس بقصد الإساءة... إنه وضوح رؤية... لستَ مجبراً على الاتفاق معي...

حكيم: لا أعلم... لكنك تتحدث بنوع من الازدراء... ألستَ عميلاً مزدوجاً؟

منير: لا... لا وجود لشيء من هذا القبيل... إما أن تكون ملاكًا أو شيطاناً... لا مجال عندي للهويات المختلطة… لا يوجد مكان لتدرّج الأحاسيس في شقتي العقلية المكونة من غرفتين ومطبخ...

حكيم: هذا غير مطمْئن!

منير: لا تكن مملاًّ مثل محاسب نموذجي... لا تخف من مجرّد ثورة صغيرة...

حكيم: ثورة على الله؟

منير: لا! ضد المؤسسة... ضد الوضع الراهن... ضد الأوساخ الكامنة...

حكيم: عصيان!

منير: ثورة صغيرة على طريقة موريس بلانشو.

حكيم: لاعب كرة القدم؟

منير: لا، الآخر. أريد أن أكون بطل ثورة مثل تلك التي نظّر لها موريس بلانشو:

« ثورة فلسفية أكثر منها سياسية،

اجتماعية أكثر منها مؤسسية، نموذجية أكثر منها واقعية؛ مدمرّةً كلّ شيء دون أي شيء مدمِّر... تدمّر، ليس الماضي، بل الحاضر ذاته الذي تتحقّق فيه، ولا تتطلع لأي مستقبل، غير مباليةٍ تماماً بكلّ قادم محتمل، كما لو أنّ الزمن الذي تسعى إلى فتحه هو في حدّ ذاته خارج كلّ التحديدات المعتادة. »

حكيم: لكنه كان يتحدث عن ثورة صبيان يقودهم المدعو دونالد كوهن بنديت... منذ متى صرنا نتبع قطّاع الطرق والمرتدّين؟

منير: خمّن قليلاً... الشيطان مرتد... لكنه كان ملاكًا قبل أن يقلب سترته... هذا متأصل فينا... بفعل التأسّل... لطالما اكتست البلدان بالغابات الإقطاعية، وتدفّقت الدماء في صحارٍ قاحلة... الحروب الصليبية وحرب المائة عام... محاكم التفتيش والحل النهائي والتّرحيل... الغولاغ والمذابح ومعسكرات الاعتقال والغارات والاختفاءات والتطهير العرقي والإبادة الجماعية… أين مكمن الكمال في هذا العالم؟ لقد كان الشيطان على حق أقول لك!

حكيم: ...

منير: ولا تنس ما كتبه فولتير:

" تهتفون: كلُّ شيء على ما يرام »

بنبرة يُرثى لها،

فيكذّبكم الكون، وتدحض قلوبكم أنفسها مئات المرات ما تلوكه عقولكم عن طريق الخطأ.

العناصر والحيوانات والبشر، كلّ شيء هنا في حالة حرب.

يجب أن نقرّ بأن الشر موجود على الأرض:

ومبدأه السري مجهولٌ لنا تماماً. "

حكيم: ...

منير: ما لا يقوله فولتير، استحياءً أو جبنًا، هو أن الشيطان كان على حق!

الصمت.

حكيم: لا أدري!

ما يزال هشام في الطريق. لقد فطن أنه تسبّب في إغضاب المهرة ممّا يعد بمبارزة هوميرية. يُبقي يديه وأصابعه بعيدًا عن الفتاة التي تترجرج بكلّ لحمها وشحمها، بفعل نضارة بشرتها الفتية، في كل مرة تنتقل فيها السيارة من سرعة إلى أخرى على الأخاديد المنتشرة كالتجاعيد فوق وجه المدينة القبيح...

لم يفكّر هشام يوماً في أنه يعيش في عالم يُعاقب فيه على النّظرة المشتهية بغرامة. بالنسبة له، العلاقة مع الفتيات بسيطة للغاية: إذا كان الجواب نعم، سيواصل، وإذا كان لا، فلن يتوقف أبدًا. براغماتي. المرور تحت الأقواس أو عبر أنابيب الصرف بالنسبة له سيّان. هشام هذا حيوان غريب، تصوّره للعالم تفتيه مواصفات ضبابية، وذكريات غير واضحة المعالم. وراء عينيه، ليس هناك سوى حساء عسير على الهضم من الأثداء والمؤخرات والقليل من الشعر لصنع شوارب هتلرية فوق الفروج.

يندفع هشام داخل مرآب السيارات في الطابق السفلي، ومن دون أن يلتقي أحداً، يجد نفسه رفقة صيده داخل المصعد الذي يصله بشقته... يتجنب النظر إلى عيني المهرة. يترك لها الحرية كي تلوك غضبها المتنامي في هدوء، متظاهراً بإلقاء نظرة على بعض المعلومات على آيفونه. يتزايد التوتر عمقاً، ويتوجّب عليهما السباحة عبره من أجل اجتياز الصالة...

حكيم: ماذا يحدث؟ لماذا يبدو الهواء أكثر سمكاً فجأةً؟

منير: إنّها المقدمات...

حكيم: مقدمات ماذا؟

منير: استحِ قليلاً...

حكيم: لماذا؟

منير: أنت تحثّني على استخدام كلمات جريئة لتوضيح أشياء تتعلّق بالتدرّجات الدقيقة للألوان والألغاز المحيّرة للعقول...

حكيم: لا أدري... دورنا هنا أن نكون براغماتيين... أن ندوّن أشياء ملموسة بحروف وأرقام واضحة... أليس كذلك؟

منير: أنت مادي أكثر من اللازم بالنسبة لملاك...

حكيم: كلا، أنا براغماتي!

منير: البراغماتية... أهذا التوجه الجديد للحزب الواحد الآن؟! هل تغيّر الملتحي أعلاه من دون علمي...

حكيم: رسالتنا مقدسة... يجب أن نؤديها بأقصى قدر من التفاني...

منير: كم أنت متملّق. كفّ عن لعب دور ستاخانوف البائس هذا!

حكيم: ستاخانوف عامل المنجم؟

منير: لا، بل ستاخانوف الغبي، نجيب الفصل الذي يتملّق لأستاذٍ لا يأبه له...

حكيم: ماذا تقصد؟

منير: كفّ عن ادّعاء التّفاني... كل ما ستحققه هو مزيد من الإحراج لنا من أجل لاشيء... نحن أصلاً عبيد في قاع السفينة... لا تزد الوضع تعقيداً بإيديولوجيتك السّمجة...

حكيم: لكني محق... أريد أن أقوم بعملي بشكل جيد... هذا كل شيء!

منير: أنا أيضًا... لكن من دون أن أقاسمك معطف الرسمية والخنوع المثير للاشمئزاز الذي ترتديه... أنت تعلم جيداً أنك لن تكون أفضل مني فقط لأنك تُبدي تشنّجاً ورواقيةً في تصريف مهمّة جائرة ومخزية...

حكيم: لا أعرف بماذا أجيبك!

منير: لا شيء... فقط اعلم أنه من الاستسهال بعض الشيء إرسال أبناء آدم على هذا الحجر المنسي من الإله كي يتدبروا شؤونهم ضد عالم لاشيء يحميهم فيه سوى كساء من اللحم... 90٪ من الماء والقليل من العقل... يُتركون للتّمرّغ في التراب، وسط طبيعة تعاديهم حدّ الشراسة، ونأتي... نحن الملائكة العاطلون... بمؤخرات على شكل قلب ووردة في الفم... كي نسجل عليهم النقاط الجيدة والسيئة... كما لو كنا في برنامج تلفزيون واقعي... هل تدرك مدى الحيف؟

حكيم: أنت تجدّف مجدّداً... لن أصغي إليك...

منير: كما تريد... لكن توقف عن إدانة الفقراء المعوزين... لا تزد الطين بلّة... لا تكن عنصريًا!

حكيم: أنا؟ عنصري؟

منير: نعم، ومتعالٍ...

حكيم: أنا متعالٍ؟

منير: نعم!

حكيم: لم أكن يوماً متعالياً... كانت أجنحتي وسيلتي الوحيدة لبلوغ العلى... فأخذوها مني في انتظار أن أفي بعقدي هنا كي أستعيدها...

منير: أنت تحلم!

حكيم: لماذا؟

منير: سترى... لا وسيلة للخروج من هنا يا صديقي... لذا كفّ عن عنصريتك وحاول أن تكون متعاطفاً مع نسل آدم!

حكيم: قلت لك أنا لست عنصريا... لماذا تصر على نعتي بذلك؟

منير: لأننا كائنات من نور مضطرّة إلى الانسحاق تحت عجلة بيروقراطية همّها الوحيد التحكّم في أبناء آدم الذين لا يتوقفون عن التكاثر كالحشرات منذ آلاف السنين... لحسن الحظ، تم تقسيم القطاع بين العديد من مقدمي الخدمات الدينية قصد تيسير المهمة... وإلا لما أمكننا تدبّر أمرها... ملَكان لكل رأس محروقة... هذا مخيف!!!... ولم لا ملاك واحد فقط لعدّ الأعمال الصالحة والسيئة لكي تكتمل الباهية؟

حكيم: أرأيت... أنت العنصري...

منير: لا، لقد سئمت الوضع... أفكر في الشيطان أكثر وأكثر... رحيل لطفي كان بمثابة صفعة لي... حتى هالتي فقدت بريقها... لم يسبق لي أن عشت هذا... أفكر في الشيطان... لقد توقعّ حصول الكارثة... كلّ هذا التّخبّط... مستنقعٌ حقيقي...

حكيم: ازدراء!

منير: كفّ عن رميي باتهاماتك وكأنها أحذية... أرجوك... توقف...

حكيم: كيف تجرؤ على التفكير في الشيطان…؟

منير: ألم تقل لنفسك يوماً أنه وقع ضحية لطرد تعسّفي؟

حكيم: اللعنة!

منير: ألا تظن أنه أراد الدفاع عن مصالحنا... ناضل على أفضل وجه لكنه تعرض للخيانة؟

حكيم: انتهاك حرمات!

منير: ألا تعتقد أن الأمور كانت ستختلف... أن الكون كان سيكون أكثر هدوءًا لو تفادى الله اللّهو بقليل من الطين في ذلك اليوم...

حكيم: عليك اللعنة!

منير: إدارةٌ رديئة وغير جديرة...

حكيم: لا أريد أن أقع في مشاكل... من فضلك، هذا أول يوم لي... أرغب أن تمرّ الأمور على ما يرام... لا أريد ملاحظات غير مرغوبة في ملفي...

منير: لا تقلق... هذه مجرد تساؤلات... فائض من الإرادة الحرة... سيكون لديك كلّ الوقت كي تبلغها بوسائلك الخاصة يوماً ما...

يخفض منير بصره لينظر إلى هشام المنهمك في التهام لحم المهرة بعد أن ألصقها على الحائط... تنبعث منها صرخات هامستر صغير... فيما يطلق هشام نفساً أجشّ متقطّعاً مثل تنينٍ وسط ساحة وغى... حرارة الأجساد تتصاعد... يصبح الجلد زلقًا تحت قدمي حكيم ومنير. يتشبثان مرة أخرى بهالتيهما حتى لا يتعثرا...

تحرير من طرف أشرف الحساني
في 19/04/2023 على الساعة 18:00, تحديث بتاريخ 19/04/2023 على الساعة 18:00