خلال هذه الفترة بالضبط، كانت المقاهي بمثابة الملتقى «المنشود» بين الفرنسيين والمغاربة، يُتيح للفرنسيين معرفة خبايا المدن التي استعمروها. وكان القواد داخل هذه المقاهي يحصلون على مستحقاتهم من المواد الأساسية مثل السكر والزيت والدقيق ثمناً لخدمتهم مع الاستعمار. ففي الوقت الذي تربّع فيه المُستعمر داخل الفضاءات للاقتراب من المغاربة وفهم نمط عيشهم وطريقة تفكيرهم وما يُخططون عليه، كان الفقهاء منغمسون في اصدار فتاوى تُحرّم أو تُحلّل الجلوس في المقهى.
وتُسجّل بعض الوثائق التاريخي داخل الأرشيف الفرنسي، حول قيام بعض الوطنيين المغاربة بتنظيم خلايا سرية داخل هذه المقاهي والتي نتج عنها لاحقاً سلسلة من عمليات إطلاق الرصاص على المستعمر وتخريب بعض المقاهي المشهورة بارتيادهم لها. ما يعني أنّ المقهى كانت له أغراض سياسية توسعية أكثر من كونها فضاءً للترفيه والاستهلاك. على هذا الأساس، صوّرت لنا الكثير من الأفلام العالمية العديد من المقاهي الشعبية، باعتبارها فضاءات خاصّة بالجواسيس والمخبرين، سيما حين يتعلّق الأمر بالبلاد العربيّة.
لكنْ بعد حصول المغرب على استقلاله عام 1956 تحوّلت المقاهي بعد خروج المستعمر في بعض المدن الكبرى مثل الرباط والدار البيضاء ومراكش وطنجة إلى أمكنة يرتادها الناس من أجل الاستجمام والتباهي وعيش نمطٍ مختلف من الحياة، نمطُ يجعلهم يستمتعون بأناقتهم داخل المقهى. بل إنّ هذا الاحتفاء بالجسد في حضرة القهوة، يُعتبر أحد ارهاصات تبلور مفهوم الحداثة داخل الفضاءات العمومية بالمغرب. والحقّ أنّ هذه الدهشة التي أصابت عدد من العائلات المغربيّة الميسورة، كان نتيجة اللقاء والتصادم مع بعض العائلات الفرنسيّة التي ظلّت تعيش في المغرب، رغم انتهاء فصول الاستعمار.
كانت تلك العائلات لها حياةٌ اجتماعية مختلفة عن باقي العائلات المغربية التقليدية الأكثر تشبّعاً بتراثها وتاريخها. هذا الأمر، ساهم في ارتفاع منسوب الوعي لدى المغاربة من أهمية المقهى داخل الحياة الاجتماعي. بهذه الطريقة بدت تظهر بعض المقاهي العريقة وفق ميسمٍ جمالي مغربيّ يعطي للتصاميم التي تستوحي ملامحها من الحضارة العربية الإسلامية بعداً وجودياً في تشكيل صورة المقهى وتأثير على مخيّلة الناس.
خلال السبعينيات ستبرز أهمية المقهى، لا بوصفها أمكنة ترفيهية، بل كفضاءات ثقافيّة مؤثّرة في راهن الصناعة الثقافيّة على مستوى الذيوع والانتشار. وقد عملت هذه المقاهي الثقافي أو الصالونات الثقافية على التعريف بالكثير من الأصوات الأدبيّة والفكرية والفنية وجعلها تبرز بقوّة داخل المَشهد الثقافي. كلّ هذا في وقتٍ كانت الثقافة الوطنية المغربية، ماتزال تتصارع بين أنْ تبقى أمينة للتراث الذي كانت يتبناه التيار الإسلامي المحافظ، وبين التيار الحداثي الذي كان يجد ملامحه داخل اليسار الجديد. كانت هذه المقاهي الفضاء الآمن والحقيقي بالنسبة للثقافة، فمنه خرجت الدواوين الشعريّة الأولى والبواكير القصصية والمتون الروائية ومشاريع الكتب النقدية لتجتاح كافة الخلايا الثقافية من جمعيات ودور الشباب وجامعات. ما يعني أننا أمام ثورة ثقافية لا تتحكّم فيها وزارة أو أي تكتل سياسي. ومع ذلك كانت هذه المقاهي تنتج خطاباً ثقافياً قوياً أكثر تجذراً في بيئتها وشجونها. ذلك إنّ اقتراب هذه المقاهي الشعبيّة من الحياة اليومية للمثقفين، كان يُحتّم عليهم طرق موضوعات ذات صلة بالمجتمع والسياسة.
مغربياً، تأسست « الرابطة الوطنية لشبكة المقاهي الثقافية في المغرب » من أجل إخراج السؤال الثقافي من سراديب المؤسسات والجامعات وكلّ الفضاءات التي تحجب الثقافة من التسرّب داخل الاجتماع اليومي. حتّى يستفيد منها المواطن العادي وتُصبح الثقافة خطاب يومي يستفيد منه المجتمع بدل أنْ يبقَ حكراً على فئة معينة أو شريحة خاصّة بالمثقفين وعائلاتهم. تعميم الثقافة هو رهان الرابطة التي دأبت على مدار سنوات على تقديم برنامج سنويّ نوعي يُراهن على الثقافة في بعدها الأنثروبولوجي المُركّب في كلّ ما يتّصل بها من فكر ونقد وأدب وفنّ وغيرها الأجناس والمعارف ذات الصلة بالعلوم الإنسانية ونظيرتها الاجتماعية.
تنبني الفكرة في أساسها، على كيفية أنْ يُصبح الفضاء العمومي مكانا للتداول الثقافي، بعيداً عن مظاهر الترفيه والاستهلاك التي تنطبع بها المقاهي. ذلك إنّ فكرة مقهى ثقافي في عمقها تحمل أبعاداً حداثية تُدخل السؤال الثقافي في صلب التحديث المجتمعي. بل تفرض على مختلف المشاركين في هذه اللقاءات الثقافية نوعاً من التنوّع بين الأدب والفن والفكر وجمعيات المجتمع المدني، لأنّه تنوعٌ يُغني زوايا المقاربة ويُعطّل كلّ الأفكار التي تحمل في ذاتها أبعاداً إيديولوجية، رغم أنّ هذا العنصر المُتمثّل في الإيديولوجيا كان بمثابة شعار يُظلّ المرحلة بأكملها.