تأتي قيمة هذا الكتاب في كونه يضع مفهوم الحداثة أمام محكمة نقدية لا تنبهر بمباهج الحداثة، بقدر ما تخضعها للنقد والتحليل وذلك من أجل تكريس المفهوم واختبار مدى صموده أمام التحولات التي باتت تعرفها المنظومة الفكرية. فقد كُتب عن الحداثة الشيء الكثير وفي كل الثقافات الإنسانية عموماً، لكنّها ما تزال تطرح العديد من الأسئلة القلقة خاصّة حينما نكون في صدد مفهوم ما بعد الحداثة الذي هو عبارة عن استكمال للمسار الفكري الذي قطعه مفهوم الحداثة. ويعتبر هذا محمد سبيلا أكثر المفكّرين الذين انشغلوا بتفكيك هذا المفهوم، سواء من خلال مرجعياته التاريخية أو مقوماته الفكرية أو تجلياته داخل بعض المشاريع الفكرية. لذلك تُطالعنا كتابات الباحثين حول مفهوم الحداثة باعتبارها تسعى إلى خلق مناخ فكري مغاير لا يُعرّف بهذا المفهوم ويرصد تجلياته، بقدر ما يعمل على إقامة نوع من النقد واخضاعه للتفكيك والمساءلة.
يقول الباحث عن كتابه الجديد « تجاوز الأحكام الجاهزة والمسبقة تجاه الحداثة وما أكثرها سواء بالقبول والتهليل والإعجاب أو بالرفض والاتهام والتشكيك يستدعي الإنصات الجيد لمفعولاتها وأساساتها وأصولها وأسئلتها ومفارقاتها، وهو مسعى رأينا أن تشارلز تايلر أجاد سلك دروبه. حين قوّل الحداثة من أفقين ومنظورين نقديين مختلفين، لكنّهما موصولين، يقول الأول: بواقعية البؤس ويدعو الثاني إلى استحضار آفاق العظمة للنظر إليها من زاوية كونها مشروعاً يربط العلل بالعلاجات ويلاقي الإدانة بالتمجيد والحداثة مع القدامة ولأنها مشروع نقدي قبل أن تكون موضوعاً له. فقد أنجبت أمراضها وعلاجاتها من الرحم نفسه، وفي الآن ذاته ولا يتعلّق الأمر بانزلاق من حدوس أخلاقية حميدة إلى مثالب مرذولة كما في أحاديث انزلاق العقل نحو الأدائية، بقدر كونها ولادة مزدوجة والفكرة أن روح هذه الاستعادة الواصلة تسمح باستضافة رؤية مغايرة لكيفية التعاطي مع سؤال الحداثة، يقول بأن فهمها والتمكن من مفاتيحها يشترط أن تعرّف بمفارقاتها ومبادئها معا ».
يضيف « هذا ما سيفسر حتى دواعي واعتبارات إطالة الجلوس في نصوص القرن التاسع عشر تحديداً ضمن هذا الكتاب. ذلك أن هذه المحطة التي نحتاج نحن معشر العرب الإمساك بخيطها، هي التعبير الأمثل عن فكرة الحداثة المنقوصة لأنها ربطت التمجيد بالإدانة والتفخيم بالتعبير. وكانت أيضاً همزة الوصل بين حلم الأنوار بنبرته التفاؤلية نحو التقدّم ومشروع السلام الدائم والتسامح وتعميم الخبر السعيد وبين القرن العشرين موصوفاً بكونه قرن الأزمات والحروب والفواجع، فصارت نصوصه الأقدر على إدراك هذا التململ، خاصة لما استشعر رموزه وهم أحفاد تجربة التفاؤل والأنوار وحراس عقيدة التقدّم أن هناك مياه تجري تحت القناطر وأن شيئاً ما رهيب هو على وشك أن يحدث ».




