إلى حدود بداية الألفية الثالثة، كان بعض الدعاة يعتبرون التقنية حراماً وضلالاً ينبغي مُحاربتها، بوصفها شكلاً من أشكال الميتافيزيقا بتعبير هايدغر وشيطاناً يُضلّل الناس ويُلهيهم عن صلاتهم وشؤونهم الدينية اليوميّة. خطابٌ استعاد معه الإسلام السياسيّ تاريخ المنع الذي رافق مفهوم الصورة ومُتخيّلها في تاريخ الثقافة العربيّة الإسلامية ليتحوّل هذا الجدل من التقنية في طابعها الوظيفي العام، صوب مُتخيّل الصورة بشكلٍ عام، وذلك في علاقتها بمُختلف أنماط الصورة، سينمائياً وتشكيليّاً وفوتوغرافياً.
لكنْ، أنْ يتحوّل خطاب الفقهاء والخطباء من تحريم بعضهم للتقنية واستعمالاتها في ذلك الوقت المُبكّر إلى الانخراط الفعلي واليوميّ الملموس والحميمي على وسائل التواصل الاجتماعي، أمرٌ يدعو إلى السخرية تارة والإعجاب تارة أخرى. والحال أنّ هذا التحوّل الاجتماعي في التعامل مع التقنية من لدن الدعاة والخطباء، لا يُضمر في ذاته، إلاّ خطاباً مُركّباً له علاقة بمفهوم الإسلام السياسي في المغرب، وكيف غدا يُبلور الأشياء وفقاً لمفاهيمه وقناعاته ويعمل جاهداً على تأصيلها وتضليل الناس بها والعمل بعكس ما يُصرّح به، حين يتعلّق الأمر بالغنائم والأرباح.
يستغرب المرء كيف لفكرٍ يتسلّح بآخر صيحات التقنية ويمتطي عبرها عرش صورةٍ يتم ترويجها بين ملايين الناس، أنّه ما يزال مُتقوقعاً على نفسه وخاضعاً لمنطق الماضي وكتب التراث القديمة، أمام ما يشهده الواقع المغربيّ من تحوّلات، سياسياً واجتماعياً؟ بل كيف يجوز الانخراط عبر مفهوم (الصورة) يُعدّ شرطاً أساسياً لدخول الحداثة ومفتاحاً سحرياً لفهم بعضٍ ممّا نتخبّط فيه اليوم؟ إنّ الأمر له علاقة أساساً بامتداد منظومة تقليدية تتنطّع منذ بدايات سبعينيات القرن الـ 20 إلى اكتساح منابت الحداثة ومُكتسباتها والعمل على تهديمها من الداخل، لا عن طريقة مقارعتها بالحجة والأفكار، ولكنْ بالتعاضد سابقاً مع السُلطة من أجل القضاء على فكرة اليسار داخل الجامعة، والآن باللجوء إلى السوشيال ميديا والترويج إلى مُختلف الخطابات الدعوية التي تنظر إلى الحاضر بعين ماضوية تقف على حدود شرخٍ كبير بين الماضي والحاضر.
مع بداية كلّ شهر رمضان المُبارك، يتكاثر الدعاة على المنصّات الإلكترونية والقنوات التلفزيونية، وهم يُروّجون إلى نفس الخطاب الديني الموروث عبر قرون. بل إنّهم لا يترددون ولا يجدون أيّ حرجٍ في الزمن الذي ننتمي إليه اليوم، من استحضار أسماء شخصيات لا أحد يعرفها وفقهاءٍ لا يُسجّل ويحتفظ التاريخ منهم إلا بسياسات المنع التي مارسوها بإفراطٍ ودعّموها في سبيل إجهاض أيّ محاولة تحديث للمجتمع وإخراجه من براثن الجهل الذي خيّم عليه. بل إنّ المُتابع لخطاب الدعاة المعاصرين، لا يلبث من الشعور بالضحك عما آل إليه هذا الخطاب وكيف تعمل هذه الأسماء على استغلال الرأسمال الديني والزجّ به في مُضاربات السوق الاقتصادية من خلال التنافس على تقديم « الأفضل » فيما بينهم وشحذ عزيمة الناس، بما يجعل كلّ داعيةٍ يُنتج أتباعه، ويعملون هم الآخرون على تثمين خطابهم وتسويقه للحصول على أتباع جدد.
لا يتعلّق الأمر هنا بخطاب ديني ينبغي تكريسه والحفاظ عليه وعلى أعلامه وتراثه، وإنّما بأرباحٍ مادية يجنيها هؤلاء الدعاة من وراء فيديوهاتهم وهم يطرقون باب الحداثة بأدواتٍ سلفية هشّة. لكنْ ما الذي يستفيده المغاربة حقاً من هذه الفيديوهات؟ كيف تخدم ثقافتهم؟ وكيف تُساعدهم على فهم واقعهم، وكلّ مضامينها عبارة عن خطاب تاريخيّ رغم أهميته ماضياً يبدو غير قادرٍ اليوم للإجابة عن أسئلة حاضر الناس ومشاكلهم؟