بورتري: عبدو الشريف.. صاحب صوت «البركة» الذي أطال عمر عبد الحليم وشارل أزنافور

عبدو الشريف

عبدو الشريف

في 12/03/2024 على الساعة 11:00

ودع المغرب المطرب عبدو الشريف، بعد أزمة قلبية، وتأثر الكثيرون لرحيله. وتحفظ الذاكرة لعبد الله التازي، وهو الاسم الحقيقي للمطرب الراحل بأن أولى إطلالته وهو شاب وسيم في مقتبل العمر عبر التلفزيون المغربي كانت بأغنية وطنية بعنوان « الماء والخضرة » أو « الوجه الحسن »، وهي في الأصل للراحل عبد الحليم حافظ. كان ذلك خلال سهرة أقيمت عام 1987 في مدينة بنسليمان، وتحفظ الذاكرة أيضا أن آخر ما شنف به أسماع المغاربة « أرض البركة » الأغنية الوطنية التي أبدع في أدائها، ونال مقابل ذلك وساما ملكيا شأنه شأن مبدعي الأغنية الآخرين الزجال محمد الباتولي، والملحن كريم التدلاوي. وهي أيضا الأغنية التي صارت علامة مميزة للاحتفال بالأعياد الوطنية.

لقد كشف رحيل عبدو الشريف عن حجم الحب الذي يكنه له زملاؤه، أو على الأصح الذي انتزعه منهم. وغلبت الدموع الكثيرين وهم يتوافدون لتقديم واجب العزاء للوالدة المكلومة، قبل تشييع جثمان الفقيد يوم السبت الأخير بعد أن أسلم الروح إلى بارئها يوم الجمعة الماضي (8 مارس 2024).

سيبقى هذا التاريخ محفورا في الذاكرة لأن الراحل كتب السطر الأخير من مسيرتين الأولى مسيرة حياة انطلقت عام 1971 وانتهت في 8 مارس 2024، كما انتهت أيضا مسيرة فنية طبعها التشبث بالفن الراقي، والأداء المتميز، في تعبير صريح عن ذوقه الرفيع الذي لا يناقش، ويعترف عبره بجميل المغرب الذي قال عنه « إنه من الدول المؤهلة أكثر لتكون رائدة في مجال الذوق ».

يوم الرحيل هو من قبيل الأيام يمكن أن نستعير لتسميته عنوان أغنية العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ « في يوم في شهر في سنة »، ففي يوم 8 مارس 2024 اليوم العالمي للمرأة كان عبدو يستعد لإقامة حفل في الدار البيضاء، كان يغالب التعب، ويتحامل على نفسه ليلتقي بجمهوره، لأن المطربة نادية أيوب أكدت في تصريح وهي مستسلمة لدموع لوعة الفراق أنها تحدثت معه هاتفيا، ولاحظت أن صوته كان متعبا، ما جعلها تطالبه بإلغاء الحفل، لكنه أصر على احترام التزامه مع الجمهور والمنظمين، وأصر على أن يلتقي بجمهوره من جديد في وطنه، لكن لم يكن ذاك اليوم، يوم لقاء، بل يوم وداع.

هكذا كان الراحل خلال مسار حياته محبا لوطنه، وأصدقائه، وفنه، ووفيا لالتزاماته. حدث في أحد الأيام أنه كان يعاني ألما وبالكاد ييتمكن من الوقوف ومع ذلك أصر على إحياء الحفل واستعان بالحقن ليتمكن من الوقوف على المسرح وأحيى حفلا احتراما للجمهور.

من قصة حب إلى عشق عبد الحليم

عبدو الشريف

روى عبدو الشريف قصته مع عبد الحليم، الذي لم يكن مولعا به، رغم أنه تربى في بيت أسرته على عشق الفن الرفيع، فوالده الراحل كان عاشقا لفريد الأطرش، ووالدته، التي سبق أن وصف صوتها في حديث لإذاعة « مونتي كارلو » قبل أعوام بأنه من أحلى الأصوات، وتعشق سيدة الطرب العربي الراحلة أم كلثوم وفيروز والراحلتين اسمهان ووردة.

تأسيسا على ما سلف لم يكن بالإمكان أن يشد المطرب الراحل عن القاعدة، وأكد أن أول ما غناه، لأنه كان مولعا بالغناء منذ الثالثة من عمره، أغنية القدس لفيروز، والوداع للراحلة وردة، وحلم لأم كلثوم، والجندول لمحمد عبد الوهاب، وأقر بأنه لم يكن قبل سن المراهقة من عشاق عبد الحليم، لكنه وقع في حب فتاة من طرف واحد، وكان يعيش اللوعة بمفرده دون أن تعرف الفتاة حقيقة ذلك الحب وهو السر الذي رحل معه.

وهو في خضم ما سماه « الربطة الزغبية » حدث أن سلمه صديق مولع

بعبد الحليم شريطا به أغنية « ضي القنادل » فتفاعل مع الأغنية وهو في حالة الحب العجيبة، فأصبح مسكونا بعبد الحليم ونسي الفتاة، والحب، وكل شيء. وأعطى زخما آخر لإبداعات العندليب الأسمر، في الكثير الحفلات وجمع بينه وبين الراحل شار أزنافور في الكثير من السهرات التي سارت بذكرها الركبان.

كان الراحل عبدو الشريف يرفض دائما أن يقال إنه يقلد عبد الحليم لأنه وكما قال في أكثر من مناسبة أنه يحتمي به من الرداءة التي لم يخلق ليتورط فيها تحت أي مبرر. لأنه لم يرغب في أن يسبح في كل البحار، ليس لأنه « لا يعرف فن العوم »، بل لأنه اكتسب مناعة ضد الابتذال وإلصاق تهمة أداء أي شيء بمبرر هذا ما يرغب فيه الجمهور.

صوت البركة وأرض البركة كل البركة

قال عبدو الشريف لا يمكن لأي كان أن ينجح في مساره الفني بالتقليد، كما أنه من الصعب أن يجذب إليه الأسرة الفنية والجمهور المصريين بتقليد عبد الحليم، بل لأنه أدى الأغاني بكل حب وبكل إبداع.

وكان إبداعه ورقيه الفني الكبير وراء أسر المصريين المعروفين بعشق الفن الرفيع والأصوات الجملة واحتضانها أيضا، وعبر له الكثير منهم عن أملهم في أن يروه يؤدي عملا مصريا خاصا به، لكنه كان يفضل أن يطل علينا بعمل خاص مغربي، وليس لبلد آخر، لأنه كان يعرف جيدا أن مصر لن تختاره ليمثلها في الملتقيات الكبرى، بل ستختار مطربا مصريا، لكنه في حال أدى عملا مغربيا يمكنه أن يمثل بلده بكل فخر واعتزازا.

واصل التأكيد على أنه ظل ينتظر عملا فنيا مغربيا متميزا لأنه يرغب في أن يبدع وينجح بالدرجتين نفسيهما اللتين وفق بهما في أداء أعمال غير مغربية. ولم يكن يرغب في أن يؤدي أي شيء ليقال إنه أدى المغربي، بشكل محتشم ولا يرقى إلى الطموحات، ويتعرض للانتقاد أو يتهم بأنه لم يحسب خطواته، وهو يلج إلى عالم الأغنية المغربية الغنية بالإيقاعات والموروث الذي كان يؤديه بروعة ولعل أداءه لفن الملحون وأغاني الرواد وبشكل خاص « البركي » للراحل محمد فيتح خير دليل، إذ كان يغني بالقلب وبالروح نفسها التي أدى بها أغاني عبد الحليم وشارل أنزنافور وأطال عمرهما الفني عبر نقله إلى جيل جديد من المستمعين وعشاق الفن الرفيع.

.

كان الراحل ينتظر الفرصة ليطل على الجمهور المغربي بعمل مغربي في المستوى، ولما تلقى عرض أداء الأغنية الوطنية « أرض البركة » عض عليها بالنواجذ، وأداها بقلب مغربي، وبإحساس وطني كبير انسجم مع الكلمة واللحن وأضاف إليهما زخما آخر، وليس غريبا أن تظل الأغنية التي نالت الثناء، وجرى توشيح الثلاثي المبدع كما أشرنا سلفا من قبل الملك محمد السادس في مدينة العيون تخليدا لذكرى المسيرة الخضراء.

قلب كبير ومسار غني

خطف الموت فنانا حباه الله صوتا رائعا وقلبا يفيض بالحب ويتسع للجميع، إذ كان يرد على كل الاتصالات وفي حال صادف الاتصال انشغاله، يبادر هو بالاتصال فور الانتهاء مما شغله، ولا يجد حرجا في تبرير عدم الرد.

إن رقي عبدو الشريف لم يكن فنيا فقط، بل إنه كان راقيا في كل شيء، وكان ذلك فضلا عن موهبته وراء دخول عالم الشهرة من أوسع الأبواب، وارتقائه ليغني للكبيرين عبد الحليم حافظ وشال أزنافور، وليصبح الضيف المفضل لكل القنوات الفضائية العربية الكبرى والمحطات الإذاعية.

كما شارك في أكبر الفعاليات الفنية في القاهرة في عدة مناسبات والعاصمة اللبنانية بيروت، ودبي وموسم أصيلة ومراكش ومكناس فضلا الحفلات الخيرية.

وجرى توشيحه إضافة إلى الوسام الملكي، عام 2004 بوسام الصولجان الفضي لتفانيه في مصلحة العمل الاجتماعي في مصر، كما حصل على الرباب الذهبي في مهرجان الفنون الشعبية بقصر المؤتمرات بمراكش سنة 2005.

تحرير من طرف حسن العطافي
في 12/03/2024 على الساعة 11:00