منذ طرح البوند آنونس للفيلم، لم يتوقّف المغرّدون عن توجيه النقد للمنصّة وأفلامها، بل إنّ مُخيّلة البعض ذهبت إلى أنّ ذلك يأتي بسبب تبنّي نتفليكس أفكار حركة « الأفروسنتريك » التي تقوم على فكرة أنّ جميع الحضارات القديمة، كات تضمّ ذوي البشرة السوداء قبل هجراتهم وتفرقتهم بسبب عوامل تتعلّق في مُجملها بالاستقرار والحرب. لا يوجد إلى حدّ الساعة دليلٌ قاطع إنْ كانت كليوباترا سوداء أم بيضاء، وهل كانت موجودة أصلاً أم أن المخيلّة المصرية ابتدعت هذه الشخصية وحاولت طوال عهود سحيقة رسم ملامحها في مختلف الأزمنة؟
إن العلاقة بين الواقع والخيال يجمعها خيط هزيل، بحيث لا يُمكن التأكّد من الحقائق، إلاّ بوجود وثائق تاريخيّة ملموسة تُؤكّد صحّتها. فالمعرفة التاريخيّة، لا تنبني على الأقاويل والقصص والحكايات، بل على معرفة « دقيقة » تستند إلى عوامل وخصائص وميكانيزمات لا يعرفها إلاّ المؤرخ والأركيولوجي. على الرغم من صعوبة مأسسة الظاهرة الإنسانية والجزم بحقيقتها ومصداقيتها أمام الواقع، بحكم أنّها تدرس كائناً زئبقياً مُتحوّلاً عبر الزمان والمكان. فالشواهد التاريخيّة من كتب ومخطوطات ونقائش صخرية ومعمار، كلّها تعطي الشرعية للمعرفة التاريخيّة وتُقرّبها إلى الحقيقة.
حين يُطلب من المرء الحديث عن حكايةٍ صغيرة طريفة وقعت له البارحة يستحيل الحديث عنها والقبض عن دقّتها وتفاصيلها بكل تعقيداتها ومَسالكها ودقائقها، بل أحياناً يتدخّل العقل ويُخرج الحكاية من واقعيتها، صوب مسارب أخرى تتحكّم فيها بنية الخيال. فكيف لنا الحديث عن امرأة ولدت عام 69 قبل الميلاد وكأنّنا نعرفها أو شربنا معها قهوة في الإسكندرية؟ ما نُريد تأكيده أنّ التاريخ، حتّى وإنْ ادّعينا أنّنا نقبض عن هسيسه، فهو يظلّ بمنأى عنّا ومُنفلتٌ منّا، وبالتالي، يستحيل تأريخه بكلّ تفاصيله ونتوءاته.
على الأقل حين طرحت نتفليكس الفيلم، فإنّ السؤال الذي كان ينبغي أنْ يفرزه هذا الجدل المصري: هل هناك علاقة بين التاريخ والسينما لدرجة تُصبح فيها الصورة ماكرة، تُفكّر التاريخ وتعمل على تفكيك أوصاله ومقاربة مكبوثه؟ لم نطرح السؤال لكوننا بالعالم العربي دائماً ما تُحرّكنا دوافع وجدانية تُعيق تحليلنا وتجعلنا نقف عند حدود البديهيات المُميتة والعتبات الأولى، دون طرح أسئلة تتعلّق بجوهر المسألة. ليس الأهم إنْ كانت كليوباترا سوداء أم بيضاء، وإنّما إلى أيّ حدّ تستطيع السينما أنْ تهدم تاريخاً وتبني غيره؟ وهل يستطيع السينمائي بحدسه الإبداعي الوصول إلى حقائق لم يقربها المُؤرّخ بعد؟ خاصّة وأنّ الصورة ما تستطيع قوله وتخييله، لا يُمكن للوثائق أنْ تتحمّله. لهذا، فإنّ الجدل رغم ما يشوبه من وجدانيات وبكائيات حول ضرب المصداقية التاريخية، فإنّه سيظلّ جدلاً مُفيداً للسينما، وبالتالي، ينبغي تحويله إلى خطاب فكري مُبدع وخلاّق، عوض البقاء عند حدود السطح.
حين يذهب السينمائي إلى التاريخ، فهو يقربه من باب أنّه موضوع أثير لقالبه السينمائي. وحتّى إنْ لم يُوفّق في الحفاظ على أصالة النصّ وأمانة التاريخ، فله ذريعة الخيال، والتي تجعله يقلب كلّ شيء بوضعه شخصيات جديدة من منطق السخرية لا من باب التزوير. إنّ السينمائي له حرّية أكبر من المؤرّخ الذي يبقى أسير النظريات والوثائق والمناهج. من الممكن أنْ يضع السينمائي خطّة تخييلية تقلب جميع الحقائق، لكونه يُنجز عملاً فنياً يخدم ذائقته الجمالية وليس حقائق المجتمع. ومن المُمكن أنْ يأتي مخرجٌ آخر، فيذهب إلى عكس ما ذهب إليه الأوّل، وذلك بحكم اختلاف المرجعيات الثقافية التي تُحدّد كلّ منطق تخييلي، لأنّ الصناعة السينمائية بمفاهيمها وجماليّاتها، تبقى أهمّ عامل أساس في الفيلم.
سننتظر كليوباترا أنْ تُطلّ علينا من خلال شبكة نتفليكس، لا لنعرف إنْ كانت ذات بشرة داكنة أو بنية أو بيضاء، بل لنقيس مدى حدود التقاطع والتلاقي بين « التاريخي » و« الجمالي » في مسار الفيلم، وإلى أيّ حدّ استطاعت جادا نينكيت إنتاج سرديّة سينمائية لهذه الشخصية الأثيرة والمؤثّرة في التاريخ المصري، قديماً وحديثاً.
من المفاهيم الشائكة للسينما، هو مدى علاقتها بالتاريخ، خاصّة داخل البلاد العربيّة التي يُعتبر فيها براديغم التاريخ بمثابة مفهومٍ بنيويّ يُجيّش مَشاعر المجتمع ويُحرّك الأهواء ويصنع الأعداء. فالتاريخ حاضرٌ عندهم في كلّ شيء. بل إنّ تفكيرهم يكاد يكون تاريخياً، وإلاّ كيف نفهم إقامة بعض المجتمعات في سراديب ماضٍ مُظلمٍ لا أحد يفهمه؟
مرحبا بكم في فضاء التعليق
نريد مساحة للنقاش والتبادل والحوار. من أجل تحسين جودة التبادلات بموجب مقالاتنا، بالإضافة إلى تجربة مساهمتك، ندعوك لمراجعة قواعد الاستخدام الخاصة بنا.
اقرأ ميثاقنا