ليس النسيان آفة فقط، بل يكون أحياناً أداة ممنهجة لطمس ذاكرة بعض المثقفين والفنانين، ممّن تركوا أثراً ثقافياً طيّباً ومُلتزماً في حياتهم. غير أنّ المؤسسات الرسمية والجماعات الثقافية الهشة دائماً ما كانت تسعى جاهدة إلى طمس ذكر بعض القامات الثقافية المعروفة بنقدها للواقع وتفكيكها للأنظمة السياسية ورصدها للنسيج الاجتماعي، لأنّها ترى في هؤلاء الكُتّاب خطراً على وجودها واستمراراً لنمطٍ من الخطاب الفكري المُلتزم الذي يقف بشكل معارض عند مُختلف أنماط الممارسات الثقافية المبنية في مُجملها على الترفيه والاستهلاك.
لذلك تسعى بعض الجهات إلى تهميش نماذج من المثقفين ومحاولة تمريغ كرامتهم على الأرض كمُحاولة منها للقضاء على إشعاعهم. ونظراً لغياب ثقافة الاعتراف بالمغرب، باعتبارها ممارسة فكريّة وسلوكاً حداثياً، فإنّ هذا التهميش يتحوّل إلى آلية يتعمّد من خلالها البعض طمس ما حققه بعض المثقفين على مستوى رأسمالهم الرمزي، بحيث لا يكاد القارئ يعثر على كتبهم أو مفاهيمهم وأفكارهم ومواقفهم، كما يعثر على سيل من الخطابات الثقافية السخيفة داخل وسائل التواصل الاجتماعي.
إنّ سياسية الاعتراف التي تتحاشاها المنظومة الثقافية المغربية، هي في عمقها تدخل ضمن ثقافة الحداثة التي تنسف كل ممارسة تقليدية تُعيق تطوّر الثقافة الوطنية وذيوع مفهوم الحداثة. لذلك يحرص بعض الأفراد على طمس ذكرى بعض الأدباء والفنانين والمخرجين، لأنهم يعرفون مسبقاً حجم تأثير أسماء من قبيل محمد شكري ومحمد زفزاف والمهدي المنجرة وعبد الكبير الخطيبي وفاطمة المرنيسي وغيرهم. ذلك إنّ هذه الأسماء عملت على مدار سنوات طويلة، على اجتراح أفق نقدي جديد يبتعد كلّ البعد عن المقاربات الرسمية التي ماتزال تحبل بها الممارسات الثقافية. فلا غرابة أنْ يجد المرء نفسه، أمام فراغ مهول على مستوى البحث الميداني، حيث تبدو مؤلّفات علم الاجتماع وكأنّها حديثُ كتبٍ عن كتب.
وأمام غمرة المشاكل التي تتخبّط فيها الجامعة اليوم، حيث يكثر اللغو باسم الإصلاح، يطالعنا النسيان بوصفه مرضاً حقيقياً يستبدّ بالمشهد الثقافي، بحيث يُحوّل كلّ مشروع ثقافي إلى محض خرافة وهباء. فلا نعثر داخل أنشطة الجامعات والمعاهد والمدارس وجمعيات المجتمع المدني، على ما يشبه نوعاً من الاستعادة الثقافية لبعض مسارات الفنانين والمخرجين السينمائيين والمفكّرين، حيث تتأتى الفرصة لعددٍ من الباحثين إعادة قراءة متونهم الفكرية ومعاينة لوحاتهم ومشاهدة أفلامهم، بهدف تقديم أفكار ومواقف وملاحظات حول مشاريعهم الثقافية ومدى تأثيرها في بنية الممارسة الثقافية بالمغرب.
نادراً ما تُطالعنا ندوات حول المهدي المنجرة أو عبد الكبير الخطيبي أو محمد سبيلا أو محمد القاسمي والجيلالي الغرباوي، باعتبارهم قامات ثقافية ومشاريع فنية لها أثرها داخل المجتمع. فهذا « الخذلان الثقافي » الذي يُمارس عمداً اليوم، يلعب دوراً سيئاً على مستوى تهميش مجهودات الناس وتكريس ثقافة الترفيه التي غدت عبارة عن سمة تنطبع بها الثقافة المغربية في السنوات الأخيرة، وهي تُحوّل الثقافة إلى أداة للترفيه وإكسيسوارا في يد رجل السياسة يستخدمها كلّما أراد أنْ يُبرز نفسه، باعتباره حاملاً لمشروع سياسي يتبطّن ملامح ثقافية، يطمح من خلالها إلى ممارسة نوع من التضليل على الناس.
كلّ هذا في وقتٍ لم يعُد فيه أحد يُصدّق ما يتفوّه به السياسيّ من « أفكار » يعلم مسبقاً، أنها زئبقية تتماشى مع الأجندات السياسية البرغماتية وتتكيّف حسب المصالح والأهواء التي تفرضها بعض السياقات داخل الواقع اليومي المعاش.



