أشرف الحساني يكتب: عبد الإله بلقزيز.. شعريات النص العابر

أشرف الحساني

في 21/07/2025 على الساعة 09:00

يعد عبد الإله بلقزيز من المفكّرين الذين برزوا على سطح المشهد الأدبي في السنوات الأخيرة كواحدٍ من المفكّرين الذين اقتحموا مجال كتابة الأدب، رغم تهيّبه الدائم على حد تعبيره من الأدب ومتخيّله.

لكنّه في النهاية وجد نفسه أمام الأدب الذي استطاع عبره بلقزيز أنْ يضفي عليه لمسته الجماليّة الخاصّة عبر نصوص من قبيل « رائحة المكان » و« ليليات » و« على صهوة الكلام » تاركاً الكثير من الانطباعات النقدية حول هذه الأعمال الثرة شعرياً والغنية فنياً. ففي هذه النصوص يتصادى الشعر بالسرد فيُكوّنان خليطاً عجيباً من الكتابة التي لا تقترن إلاّ بالمعاصرة. هذه الأخيرة ليست شكلاً عند بلقزيز وإنّما عبارة عن براديغم جامع منه تتبلور الأفكار والمواقف والأحلام والارتعاشات وهي تحفر مجراها عميقاً في الذات الفردية في علاقتها بالطفولة والفضاء والجدة والجسد.

إنها نصوص تُشبه المطر المفاجئ من ناحية إيقاعها. نصوص تدفعك لا إلى القراءة فقط وإنّما إلى الجرح والتأمّل. بهذه الطريقة حرّر صاحب « الفلسفة والسياسة » العمل الأدبي من نسقيته على مستوى التركيب الأجناسي لصالح كتابة تضرب في الما بين وتحاول عبر هذه المسافة المُضيئة أنْ تقبض عن بعضٍ من فرحٍ طفولي أو صورة عابرة أو نزوة غامضة في مناطق يباب من جسدنا الإنساني.

تستند الكتابة الأدبيّة عند عبد الإله بلقزيز على ما يمكن تسميته بـ « النصّ المفتوح » أو « العابر ». فقد كتب بلقزيز هذه النصوص بنوع من الكتابة العابرة للأجناس الأدبيّة، إذْ يكتب بشكل محايث لمفهوم الجنس الأدبي وذلك رغبة منه في تكسير صنمية الحدود المؤسسة على مفهوم الشكل. بهذه الطريقة يكتب صاحب « الحركة » بكل تلقائية، تارة ينظم شعراً وتارة أخرى يبني نصّه انطلاقاً من خطية السرد. فنصوصٌ من قبيل « رائحة المكان » و« ليليات » و« على صهوة الكلام« ، يصعب على المرء تجنسيها، ما إذا كانت شعراً أم نثراً، لذلك يقول بلقزيز إنها عبارة عن « نصوص مفتوحة » ويقصد بذلك كونها كتابة تعبر مفهوم الجنس وتحاول أنْ تبني جمالياتها، انطلاقاً من حريتها الخاصة على مستوى الشكل.

وقد بذل صاحب « نهاية الداعية » مجهوداً كبيراً في إعادة تملّك اللغة الأدبيّة القديمة واستحضار بعض من ميكانيزماتها على مستوى جماليات التعبير اللغوي وإعادة وضعها ضمن قوالب أدبية معاصرة، تحاكي ذاتية الكاتب ومتخيله تجاه الماضي. وتعمّد الكاتب أنْ يُعيد إحياء هذا الموروث اللغوي العربي الكبير بتوظيفه في الكتب المذكورة التي تبدو وكأنّها عبارة عن سيرة ذاتية لعبد الإله بلقزيز.

غير أنّ السيرة هنا، لا ينبغي النّظر إليها على أساس أنها تحقيق كرونولوجي مُلتصق بمسام الحدث السيري، وإنّما تأتي السيرة على شكل شذرات وومضات وصور تحفر مجراها عميقاً في ذاتية القارئ. في حين خصّ بلقزيز مؤلفاته الأخرى مثل «الحركة» و«صيف جليدي» و« سراديب النهايات » بالاعتماد على التجنيس الروائي لإعادة الاعتبار لفكرة سياسيّة أو مركزية التاريخ أو تحولات الواقع. بمعنى أن النص رغم أنه أدبي بامتياز، فهو يُضمر شكلاً من أشكال التفكير المجرّد الذي يجعله يطرح أسئلة فكرية داخل كتابة أدبيّة.

تبدو رواية « الحركة » وكأنها تأريخ دقيق لحركة 20 فبراير التي اندلعت وتفجّرت مع بدايات الربيع العربي، إذْ يُعطي فيها الكاتب رؤيته حول هذه الحركة وما رافقها من أحداث سياسية يومية تجاه الواقع. ففي اللحظة التي تتمنّع فيها الكتابة التاريخية، تقريرية كانت أو تنظيرية، بسبب أنّها تفترض في البدء من الناحية العلمية، ترك مسافة كبيرة مع « الحدث » حتى ينضج وتتبلور معالمه وتبرز خيوطه المتشابكة، جاءت الكتابة الروائية لتنقذ ذاتية الكاتب من مأزق الصمت تجاه واقعه وتدفعه إلى إعادة كتابة هذا التاريخ الحي، لكنْ هذه المرة وفق تقنيات سردية مختلفة وآليات تخييلية متباينة.

ورغم نجاح هذه الرواية والصدى الذي لقيته في صفوف النقاد، إلاّ أنّ القارئ يشعر بنوع من الامتعاض ويصعب عليه قراءة هذا النص الذي يبدو جافاً من ناحية التعبير الأدبي والزخم الشعري الذي عودنا عليه الأستاذ عبد الإله بلقزيز. لذلك، فإنّ تغيير خط الكتابة من الفكر والتاريخ، صوب الرواية والتخييل انعكس بشكل مُضمر على النص وجمالياته من ناحية اللغة والأسلوب.

بغض النّظر عن هذا الإجراء الشكلي، يحرص بلقزيز في كل عمل أدبي له أنْ يكون تثميناً لمشروعه الفكري. فنصوصه تبلغ درجة عالمة من الإبداع لكنْ تبقى تتبطّنها دائماً اشتغالات كبيرة على التفكير المجرّد والسؤال الفلسفي والتحليل الاجتماعي والإيقاع الموسيقي (كتاب ليليات). إنه يخلق من خلال النص الأدبي « تهوية » يحاول أنْ تكون خدمة لمشروعه النظري وليس تكسيراً من حدّة لغته التقريرية.

تحرير من طرف أشرف الحساني
في 21/07/2025 على الساعة 09:00