أشرف الحساني يكتب: فتاة «همنغواي»

أشرف الحساني / ناقد فني

أشرف الحساني / ناقد فني

في 05/09/2023 على الساعة 17:30, تحديث بتاريخ 05/09/2023 على الساعة 17:30

مقال رأييطيب لي في تلك الفُسحة الضيّقة على باب القطار، القادم يومياً من القنيطرة في اتجاه محطّة الدارالبيضاء الميناء، حزيناً ووحيداً وبشكل أعزل، أحاول أنْ أرمّم جروح مرحلة عشتها في حياتي. أنا داخل هذه المدينة غريبٌ عنهم، وهم غريبون عنّي. أراهم ينظرون إليّ من بعيد. البعض له كامل الجرأة ليقول لك أنتَ مميّز في جيلك ويُضيف « أنْتَ مختلف »، لا « أنا من كوكب آخر » هكذا أجيبه وأمضي سريعاً في اتجاه البيت.

في نفس المَشهد اليوميّ، الذي لا يتغيّر وكأنّه مسلسل ساخر كتبه آخرون عنّي. أراها تقف أمامي، تضع نظارات شمسية مثلي. ترتدي كثيراً الأسود، أحياناً يراودني السؤال: هل أنتِ حزينة مثلي إلى هذا الحد؟ لا يهم. تحمل في يديها رواية « العجوز والبحر » لإرنيست همنغواي في نسخة إنجليزية. أنظر إليها وأصاب يومياً بنوعٍ من الحيرة. هل حقاً ما يزال هناك ناس يقرؤون الأدب في القطار؟

أشعر بالفرحة، أبتسم في داخلي، وتعتريني سعادة كبيرة لا يُمكن وصفها. أقول في نفسي: نعم، داخل هذا البلد الذي يشبه الكابوس وداخل مجتمعٍ تقليدي أصبح من شدّة واقعيته بئيساً، هناك ناس ماتزال تؤمن بالخيال؟ لكنْ، لماذا تقرأ « همنغواي » الذي يُعتبر أحد أهم وأبرز الكُتّاب في تاريخ الرواية الغربية؟ لماذا لا تتسلى بهاتفها مثل الموتى الذين بجانبي في القطار؟ هل هناك حدود بين الواقع والمُتخيّل؟ كيف يُمكن أنْ نستفيد من همنغواي في حياتنا المعاصرة، خاصّة داخل بلدٍ يحتقر الأدباء ويجعلهم مجرّد إكسيسوارات في أسواق كتبٍ تافهة؟

كل يوم تقريباً، ألتقي بها في القطار، أراها تقرأ همنغواي، ربما تكون مثلي أو نُسخة تشبهني، تبحث هي الأخرى عن فصلٍ جديد في حياتها أو فسحة صغيرة من الحلم الذي تُحصّن به نفسها من واقعيّة المغاربة. ليس الأدب مجرّد تسلية أو كتابة نقرأها قبل النوم. الأدب جُرحٌ غائرٌ في أجسادنا. إنّه شكل من الكتابة التي تُحرّر وعينا الاجتماعي، وتجعلها نؤمن بالخيال وأهميته في حياتنا اليومية. الخيال ملاذ الجمال، يرنو إليه الناس لابتداع قصص وحكايات وعيش تجربة فيها بعض من الواقع العيني المباشر الذي ننتمي إليه كبشر.

لهذا أتساءل مراراً، ما الذي جعل الفتاة تبقى أمينة لهمنغواي، خاصّة وأنّها تقرأ بالضبط رائعته « العجوز والبحر » التي حصل بفضلها على جائزة نوبل للآداب، ثم جائزة بوليتزر الأمريكية؟ وفق هذا المعنى، هل يمكن للخيال أنْ يُحرّر حياتنا اليومية أو يكشف بعضاً من عيوبها أو على الأقلّ تجميلها؟

نحن اليوم، في حاجة إلى هذا النوع من الناس الذين يشغلون وقتهم بالقراءة والتأمّل، لأنّ الأدب والفنون والسينما، أجمل الاكتشافات في تاريخ البشرية. اكتشافات غيّرت القيم والأخلاق والأذواق، وجعلت الناس على مدار قرونٍ ترتقي بنفسها، عوض أنْ نظلّ نجري وراء الرياضة، باعتبارها خلاصاً في نظر المغاربة وذريعة للوصول إلى الشهرة.

داخل مشهد القطار اليوميّ دائماً ما أشعر في كوني غريبٌ عن نفسي. نظارات الـ Ray Ban السوداء لن تزيل عنّى آلام الجسد ومواجع النسيان. هل أنا حقاً أنا؟ الناس الذين يقفون في جانبي على بوابة القطار، لم أرى فيهم شخصاً يحمل بين يديه كتاباً. الكل تائه ينظر في هاتفه الذكي. دائماً ما أتخيّلهم في طوابير الموتى، استعداداً إلى رحلةٍ سماوية. بل إنّ أغلبهم عمّال وموظفون في شركات بنكية وغيرها. أحياناً يُخيّل لي، أني في فيلم سينمائي عن الخيال العلمي، فأروح أوزّع عليهم أدواراً غرائبية. أتخيلهم ينزلون من المريخ أو زحل إلى كوكب الأرض بأجسادٍ آدمية ورؤوس حيوانية، فيتسلون بالرقص داخل القطار في مشهدٍ سوريالي من أفلام الويسترن بالغرب الأمريكي. وأحياناً أختلس النّظر من وراء نظاراتي لأدقّق النّظر في لباسهم الرسمي، فيبدون لي مثل بهلوانات راقصة في سرك من الوهم.

أقف يومياً بشكل سامق أمام زجاج الباب، أنظر صوب الخلاءات الموحشة وأبحث عنّي وعن طفولتي وعن أحلامي وأمكنةٍ زرتها وأخرى أحلم أنْ أجد نفسي فيها. صفارة القطار السريع من بعيد أعشقتها وأحسّها أقرب إلى قلبي، لأنّها توحي لي دائماً بالسفر البعيد في اتجاه اللامنتهى. أنظر إلى الفتاة وكتابها وكلّ الناس الذين يُحيطون بنا. وأطرح السؤال: هل يعرف هؤلاء الموتى من هو همنغواي؟

على عتبة باب القطار، الناس تستعدّ للوصول إلى المحطّة الأخيرة للذهاب صوب مقرّات عملهم. بعضهم فرحٌ بالوصول والبعض الآخر، يبدو مُسرعاً كما لو أنّه سيذهب في نزهة بقطار آخر. لماذا هم مسرعون إلى موتهم البطيء(عملهم)؟ البعض الآخر، يتكلّم بصوتٍ مرتفع في الهاتف، كأنّه يُريد أنْ يظهر لنا مَتانة حباله الصوتية. البعض يتباهى بقميصه المزركش الجديد، ظاناً أنه في حفلة عيد ميلاد. وبمجرّد ما تنخفض سرعة القطار، الكلّ يُهرول في اتجاه البوابة فتلتصق الأجساد في حميمية نادرة مع بعضهم البعض، وهي تستعدّ للخروج من بوابة القطار في اتجاه المحطّة.

شخصياً، أفضّل أنْ أبقى واقفاً في القطار، لا أريد التحرّك، تعبت قدماي من المشي ومن حمل نفسي من كلمةٍ إلى أخرى. أريد أنْ أنام ولا أستيقظ. تعبت من المحطّات ومن هذه الأجساد الآلية التي تُحيط بي. أصبح المغاربة منشغلون بمظاهرهم أكثر من عقولهم. نادراً ما تعثر في زحمة اليومي، على شخص يبعث فيك الفرحة ويدبّ في جسدك بهجة السؤال الثقافي، كما فعلت هذه الفتاة التي لا أعرفها. ومع كلّ محطّة يقطعها القطار، كانت لهفتي تزداد في معرفة السبب الذي جعلها تختار الكاتب الأمريكي الكبير إرنست همنغواي وليس من يكتبون كتباً للناس تُقرأ قبل النوم؟

يتبع..

تحرير من طرف أشرف الحساني
في 05/09/2023 على الساعة 17:30, تحديث بتاريخ 05/09/2023 على الساعة 17:30