أشرف الحساني يكتب: إلى عبير نعمة.. فلتحلُم عيناك

في 01/06/2024 على الساعة 20:30, تحديث بتاريخ 01/06/2024 على الساعة 20:30

مقال رأيمنذ تعرّفني على صوت الفنانة والمطربة اللبنانية عبير نعمة، أصبح صوتها يُلازمني طيلة اليوم. فكلّما استمعت إليها لحظة الكتابة والتفكير والتأمّل أشعر أنّها تُحرّرني من الداخل، أشعر أنّها تكشف شيئاً في جسدي لكنّي أجهله. إذْ يُخيّل إليّ أحياناً أنها تترجم مزاجي وذائقتي في الفن ونظرتي للجمال.

تعتبر عبير نعمة أحد الأصوات المميّزة والقويّة والنادرة في العالم العربي التي تقع في حبّها منذ أوّل أغنية تسمعها. حين استمعت إلى « غنّي قليلاً » اعتقدت أنّ صوتها سينطفئ بمجرّد أنْ يتوقّف عزف الموسيقار مارسيل خليفة، لكنّ ذلك لم يحدث، بل ظلّت الفنّانة تُغنّي وتفتح للغناء العربي دروباً شاسعة، بعيداً عن الغناء التنميطي الذي يروج داخل الساحة العربيّة. صوتُ عبير نعمة مذهل في أدائه وقويّ في خاماته الصوتية، إنّه يبدو لي شخصياً وكأنّه نابع من نبعٍ مجهول، فهو ينتزعك من واقع عربي متصدّع وينقلك إلى عالم من الأحلام المذهلة والاستيهامات اللذيذة. حين أسمع أغنيات من قبيل « بلا منحس » أو « بصراحة » أو « بعدني بحبّك » أشعر أنّ الحاضر يتوقّف ومباشرة أسافر عبر الأغنية إلى قصص وحكايات وذكريات.

لكنْ كيف يُمكن لصوت بشري أنْ يُحدث كلّ هذا الارتجاج في جسدي؟ كيف تستطيع عبير نعمة أنْ توقف إحساسي الزمني بالحاضر وترجّ كيّاني وتجعلني أسافر في سراديب جسديّ بحثاً عن طفولة منسيّة بكلّ ما رافقها من ألم ومعاناة؟ كيف أتغلّب في يوميّاتي على أغاني عبير نعمة؟ بالنسيان؟ بالكتابة؟ بالموت؟

أشعر أنّ عبير تحلم أكثر من كونها تُغنّي. بهذه الطريقة تمنح أغانيها دفئاً لذيذاً وإحساساً قوياً بقيمة الحبّ والصداقة والغياب والرحيل. تبدو عبير في أغانيها الأخيرة سفيرة روحية تُرمّم أعطاب القلب وتفتح أقانيم الجسد على أنفاس مُستقطعة بها يُعيد القلب خفقانه تجاه الآخر. تبذل عبير مجهوداً كبيراً في توسيع حدود الأغنية العربيّة بفتحها على مجاهلها واللامفكّر فيها من خلال الأداء الصوتي. بل تحرص بصوتها الأوبرالي على انتزاعها من لغو الكلام الذي لا يُطال وأخذنا بشكلٍ متخيّل إلى أمكنةٍ لم نكُن نحلم بها أو تحلم بنا. اختيارات عبير دقيقة من ناحية الموضوعات التي تشتغل عليها وأصيلة من حيث القدرة على توزيع موسيقي للكلمات. بل حتّى كليباتها تبدو جمالياتها بسيطة ومدهشة في اختيار صُوَرٍ تتماشى مع طبيعة صوتها وإحساسها القويّ بمفهوم الزمن الذي تُغنّي فيه الأغنية.

في السنوات الأخيرة، أصبح عبير نعمة بصوتها وأغانيها الناجحة مع شركة universal Music Mena الصوت العربي الأكثر استماعاً وقدرة على تجاوز المألوف من ناحية الأداء. فالعالم العربي ضاجّ بالأصوات الغنائية، لكنّها مجرّد أصواتٍ لا أكثر. في حين أنّ صوت عبير نعمة يبدو غريباً بين هذه الأصوات الفقاعية، لأنّ صوتها يبحث له عن منافذٍ ضوءٍ داخل أراضِ لم يكتشفها إنسان. صوتٌ يُعيد إلينا عمقنا الإنساني ويُعطينا دفئاً بأهمية الحلم في حياتنا اليومية وقدرة على تأصيل أجسادنا.

تُعلّمنا أغاني نعمة كيف نُحبّ وكيف نشعر بقيمة هذا الحبّ في الرحيل والغياب والهجران والموت. إنّها أغاني ترسم لنا إيقاعاً جديداً في حياتنا اليومية، بعيداً عن كلّ أشكال الضجر والألم. تعطينا أغاني عبير قوّة لاسترجاع الماضي والشعور به في داخلنا ونحن قريبون ممّن نُحبّ وبعيدون في آن واحد عن كلّ تلك القلوب الدافئة التي جعلتها نحظى ببعضٍ من السعادة والحلم والألم والهواء.

فلتحلم عيناك يا عبير نعمة كما تشتهي..

تحرير من طرف أشرف الحساني
في 01/06/2024 على الساعة 20:30, تحديث بتاريخ 01/06/2024 على الساعة 20:30