قطعاً، ليست الرياضة مستقبل الشباب في المغرب، لأنّه رغم الموهبة فالناس في حاجةٍ ماسّة إلى التعلّم وتغذيتها بالدراسة واتقان اللغات والانفتاح على مختلف مجالات المعرفة المعاصرة. منذ مونديال قطر اعتقد الكثير من المغاربة أنّ مستقبل أبنائهم وبناتهم رهين بكرة القدم وأنّ الرياضة لوحدها قادرة على خلق سيرة جديدة لهم، بعيداً عن مقاعد الدراسة والتحصيل العلمي الجيّد. كل هذا في وقتٍ تتلاشى فيه قيمة المعرفة داخل الأسر المغربيّة. وبما أنّ الجامعة لم تعُد تستطيع أنْ تُؤثّر في الناس ومشاغلهم اليوميّة، بسبب الهوّة بين المواد التي تُدرّس داخل الجامعة وطبيعة سوق الشغل الذي لا علاقة له بالمؤسّسات التعليمية العامّة منها والخاصّة.
ليس المشكل في النظام التعليمي، بل في طرق تسيير التعليم ورغبة الدولة في دفع الناس إلى التوجّه إلى الشُعب التقنية. وفي هذا الأمر، ضربٌ لقيمة المعرفة وممارسة نوع من العنف الرمزيّ على الخيال وما يلعبه من دورٍ فعّال في حياة الإنسان. فالحياة لا يُمكن أنْ تستقيم بدون الخيال، لكون أنّ تعبيرات من قبيل الرقص والسينما والتشكيل والفوتوغرافيا تُجمّل حياتنا اليوميّة وتدفعنا إلى فهم طبيعة الواقع الذي نعيش فيه، والعمل على مجاوزة فظائعه ونتوءاته.
استغرب الكثير من الزملاء بالطريقة الهستيرية التي عبّر من خلالها المغاربة عن فوز العداء سفيان البقالي بالميدالية الذهبية ضمن بطولة العالم لألعاب القوى، لكنْ لا أحد حرّك ساكناً بفوز فيلم « شظايا السماء » للمخرج السينمائي عدنان بركة ضمن مهرجان عمان السينمائي الدولي، أمام منافسة شرسة ضمّت أفلاماً من تونس ولبنان والعراق وفلسطين والسودان. فالفيلم مُؤلم ويحكي سيرة البدو الرحل بالجنوب المغربي في علاقتهم بالنيازك، وكيف تُؤثّر شظاياها في يوميات الرحل، بعدما تدفعهم إلى البحث عنها وسط الجبال والخلاء المقفر.
هذا الأمر، يُؤكّد طبيعة الوهم الذي بتنا نعيش فيه والذي أصبح يُسيطر على كافّة العقليات. ليس الرياضة أفضل من السينما، ولا السينما أفضل من الرياضة، فكلّ المجالات تخلق لها جماهيرها الواسعة في خدمة الرأي العام وصناعة صورة لامعة للوطن. ما يحدث اليوم، هو الترويج لكرة القدم على أساس أنّها الأهمّ من كلّ شيءٍ، في وقتٍ لا نعثر فيه على دقيقة واحدة من الوسائط البصرية المخصصة للسينما الوطنية. فالسينما لها صوتٌ قويّ وضارب في المجتمع وتستطيع بسحرها وفتنتها أنْ تُحرّك المشاعر اليباب من الجسد البشري، إذْ لها قُدرة على التأثير أكثر من الرياضة، خاصّة بعد المكانة التي غدت تلعبها السينما المغربيّة في العديد من مهرجانات العالم.
بينما كان المغاربة يحتفلون بسفيان البقالي، كان المخرج عدنان بركة جالساً بجواري في عمّان بالأردن، يحمل بين يديه جائزة « أفضل فيلم وثائقي عربي » وينظر إلى السماء ويشكر أمّه الثانية التي توفيت قبل أسابيع، لعله يستعيد قهر الصحراء ويوميات التصوير وشظف عيش أبطاله (عائلة محمّد) في تلك الجبال. في وقتٍ لم أقرأ فيه خبراً عن الفوز أو حتّى اتصالاً هاتفياً من الناس. لكنْ بالنّظر إلى مزاج صاحب « شظايا السماء » فإنّه من النوع الذي يكتب ويُخرج أفلامه لنفسه قبل جماهيره. فالفيلم ذاتي، تأمّلي، فلسفي، موجع، يترك الندوب في الجسد، ولا يرسم أيّ فرحةٍ أو بسمةٍ، لكنّه يترك في قلوب الناس جرحاً لن يندمل عن مصير الناس داخل أوطانهم وكيف يُمكن للقدر أنْ يعبث بنا وبأحلامنا أو يجعل حياتنا أفضل في لمح البصر.
على الأقلّ ما فعله عدنان بركة، أنّه نقل قصّة تلك العائلة من تلك الأماكن المنسيّة وجعلها تعتلي عرش السينما، وتدخل قلوب المُشاهدين في العالم. لقد أثّر فيلم « شظايا السماء » في لجنة التحكيم وجعلها تختاره، بدل أفلامٌ أخرى لها قيمتها الإيديولوجية والواقعية والجماليّة. وحدها السينما تستطيع أنْ تقبض عن الواقع وتقتلع الشخصيات من فضاءاتها وتزُجّ بها في عالم بصريّ مُتخيّل يُمتزج فيه الواقعي بالتخييلي والتاريخي بالفانتاستيكي.