البعض يعتبر كتابات العروي عميقة من حيث النسق، لكونه لا يكتفي بترميم الأحداث وتدبيجها، كما اعتاد زمرة من المؤرّخين المغاربة في ممارسة غواية السرد التي تُتيحها طبيعة البحث التاريخي. في حين يعتبر آخرون كتاباته غامضة وأنّ اهتمام البحث العلمي بالمؤرخ عبد الله العروي محض صدفة قادت العروي عام 1967 إلى كتابة مصنّفه الفكري « الإيديولوجية العربيّة المعاصرة » وهو العمل الفكري الهامّ الذي قاد العروي إلى ارتياد آفاقٍ كبيرة ودروب غير مُفكّر فيها. شخصياً طالما آمنت أنّ عبد الله العروي أهم مفكّر لمرحلة ما بعد الاستقلال في البلاد العربية. فأعماله الفكريّة تتميّز بعدّة مفاهيمية كبيرة وقدرة هائلة على تحليل الأحداث وتأمّلها ووضعها في سياقات مختلفة من أجل مقاربة مفهوم الحدث في بعده المُركّب.
لكنْ إلى جانب كتاباته التنظيرية عُرف عن العروي اهتمامه بجنس الرواية. مع أنّ معظم رواياته تتميّز بكثافة فكرية تنفي الصنعة الأسلوبية التي طالما عرف بها كُتّاب الرواية. يتعلق الأمر هنا برواية تتعامل مع الواقع بنظرةٍ فكرية. نمطٌ أدبي كرّس معه الرواية كفنّ يُعرف به الأدباء، بل حتّى عند المفكّرين مثل بنسالم حميش وعبد الإله بلقزيز وموليم العروسي وغيرهم، إذْ تحضر الرواية، باعتبارها نصّاً أدبياً ومختبراً فكرياً قادر على تكثيف القول وطرح ما لا يُمكن أنْ تطرح الكتابة الفكرية التقريرية المجرّدة. وذلك لأنّ في طبيعة الكتابة الروائية ما يُبرّر عملية التخييل التي تعطي للمفكّر إمكانية التعبير بطلاقة عن ذاته وأفكار ومواقفه.
يعد العروي أكثر مفكّر مغربي انشغل بالمفاهيم، إذْ عمل في مؤلفاته: « مفهوم العقل » و »مفهوم الحرية » و »مفهوم الإيديولوجيا » و »مفهوم الدولة » على تشريح دقيق لهذه المفاهيم التي تعتبر مدخلاً حقيقياً للنّظر في إشكالات التأخّر التاريخي عند العرب. فالقارئ لهذه المؤلفات يكتشف القدرة التحليلية العميقة التي تطبع سيرة صاحب « السنة والإصلاح ». فهي كتاباتٌ تحليلية أكثر منها تنظيرية، مع أنّها أحياناً تغدو كذلك. يميّز العروي بين نمطين من الكتابة التاريخية، الأولى، التي يمشي على منوالها أحمد بن خالد الناصري، والثانية يُمثّلها ليفي بروفينسال.
الأولى تقليدية رتيبة تنقل الأحداث في آنيتها وتتعامل مع التاريخ بوصفه حكايات وسرود، وهو هو نمطٌ يكتب به العديد من الباحثين في التاريخ اليوم، إذْ رغن الادعاء الأعمى لتمثيل مدرس الحوليات(الأنال) إلاّ أنّ كتاباتهم وموضوعات اهتمامهم وطبية المتون التي يشتغلون عليها، تُظهر بعمق بعضاً من الانزلاق صوب التقليد وإنتاج معرفة خارجة عن الزمن الذي نعيش فيه. أما نمط الكتابة الذي يتبنّاه ليفي، فهو حديث في شكل وأصيلٌ في تفكيره ونزوعه إلى الفكر أكثر من التاريخ والتحليل أكثر من السرد. إنّها كتابة لا تنظر إلى الحدث السياسي في مفهوم الآني، بل تُطيل النّظر والتفكير في تأثير ذلك على مستوى الزمن الطويل.
حين تقرأ العروي تجد نفسه أمام فكرٍ جدلي ومُفكّك، لكنّه هادئ في الآن نفسه على مستوى الصنعة. عبر قراءات طويلة ومتعدّدة تُدرك أنّ كتابات العروي يسبقها تأمّل كبير وجبّار، تأمّل يعطي شرعية علمية كبيرة على أفكاره ويجعلها متجذّرة في العمق والتأصيل. وتبدو معالم الفلسفة والتاريخ واضحة المعالم والرؤى في كتاباته في عددٍ من مؤلفاته قبل أنْ يحدس هذا الأمر بعنوان كتابه له بنفس العنوان.
وفي هذا الكتاب يُصرّح العروي أنّه كان دائماً يمشي على قدمين: الفلسفة والتاريخ. كلّ هذا في وقتٍ يكره فيه باحثون في التاريخ اليوم دراسة الفلسفة وتأمّل مفاهيمها ومعرفة السياقات الفكرية التي جاءت فيها بعض المفاهيم بطريقة تقود المؤرّخ إلى تأصيل أفكاره ونقل الكتابة التاريخية من مستواها العام والمحدود في التفاعل مع البحث التاريخي، صوب الاهتمام بتأصيل الأفكار والمعارف.
في مقابل « الصنعة الهادئة » عند صاحب « أوراق » نجد البحث الجامعي اليوم عبارة عن قراءات وتحليلات سطحية لقضايا تاريخية مصيرية. إذْ هناك تراجع كبيرة في الكتابة التاريخيّة، إذْ يجد القارئ سهولة في التعرّف على أحداث وموضوعات وقضايا. مع العلم أنّه هناك لجان علمية تدير المختبرات، لكنّها في أغلبها متواطئة مع أسماء بحثية كبيرة. فهناك مختبرات علمية « تُفرّخ » الكتب في موضوعات تاريخية استنفذت مادتها المصدرية وبالتالي أصبحت عبارة عن عملية اجترار للبحوث والمراجع.
هل هناك رقابة أكاديمية تُحكّم هذه المؤلفات التي تتكاثر كالفطر، مُحدثة أثراً سلبياً على مسار الكتابة التاريخية والفكرية. هناك فرق بين أنْ يكون المرء مُؤرّخاً يستشكل القضايا والإشكالات ويتأمّل التاريخ، باعتباره علماً يستحقّ أنْ يُنقل وتُعاد كتابته من جديد مع ضرورة تأمّله والتفكير فيه وتقديمه على أساس أنّه مادة فكرية عميقة وبين أنْ يكون المرء باحثاً في التاريخ يتتبّع آثار من سبقوه ويمشي على منوالهم ويقرأ كتبهم ويتتبّع أحوال مصادر فيكون مجرّد نسخة مُتكرّرة بشكل لا نهائي.