خاصّ بـle360: مقتطفات من رواية «مفعول الشيطان» للمُخرج السينمائي هشام العسري (4)

الروائي والمخرج هشام العسري

الروائي والمخرج هشام العسري

في 17/04/2023 على الساعة 18:00, تحديث بتاريخ 17/04/2023 على الساعة 18:00

تتعدّد وتتوزّع التجربة الإبداعية لهشام العسري، بين الإخراج السينمائي والتلفزيوني، ثم الرسم والكتابة الروائية. ذلك إنّ مساره الإبداعي متفرّد ويظلّ دوماً مفتوحاً على حدود التجريب وأسئلته المُتشابكة بالواقع والمتخيّل.

وإنْ كان صاحب فيلم « البحر من ورائكم » في روايته الرابعة « مفعول الشيطان » يتجاوز حدود الواقع بكلّ حمولاته السياسيّة وميثولوجياته الاجتماعية، صوب أفكار ميتافيزيقية مُختلفة. غير أنّ الميتافيزيقي هنا، يحضر باعتباره أداة تدين الواقع وتكشف عن أعطابه وتصدّعاته. بل إنّ النصّ يُعدّ بمثابة سفرٍ فلسفي يطرح أسئلة حول الدين والوجود والسلطة والميتافيزيقا في علاقتها بالواقع الفيزيقي الذي ننتمي إليه. فهذا العُمق الفكري الذي تُطالعنا به « مفعول الشيطان » لا نعثر عليه حتّى عند كُتّاب معروفون بالكتابة الرواية ومُتخيّلها. وذلك في قالب حوار يمزج بيت الواقعي والتخييلي، بين ملائكة اليمين والشمال الذي يعملون على تسجيل حسنات وسيئات الإنسان في الوجود.

لقد عمد هشام العسري إلى نفسٍ روائيّ صعب، لا يطرق باب الواقع بطريقة فجّة ومُباشرة يُصبح فيها النصّ تدريباً إنشائياً، بقدر ما ينظر إلى الواقع بعينٍ ميتافيزيقية ما ورائية تسعى جاهدة إلى الإمساك بتفاصيل الملَكين منير وحكيم، عاملاً على إعطائهما صفاة بشرية آدمية، وذلك بهدف تقديم رؤية « أكثر إنسانية للموروث الديني، وتمثل ظواهر بشرية صرفة في مملكة السماء من جهة، والنّظر إلى أحوال الآدميين بغيرية ملائكية قصوى تقتفي أثر الإنسانية بتعقيدها المازج بين اليأس والأمل، التعاطف حدّ التماهي، والأنانية المفضية إلى الخذلان من جهةٍ ثانية، قبل أنْ يلتقي المنحيان في معضلةٍ نهائية تضع الجبن المتواري وراء الواجب المهني في كفّة والتسامي على الشرط الملائكي/الإنساني في كفّة ثانية » حسب كلمة المُترجم.

على مدار 3 أيام في الأسبوع (الاثنين، الأربعاء، الجمعة) يهديكم موقع le360 سلسلة خاصّة مُركّزة ومختارة بعنايةٍ من رواية « مفعول الشيطان » للكاتب والمخرج هشام العسري، والمُترجمة حديثاً من اللغة الفرنسيّة إلى العربيّة من طرف كلّ من سعيد المزواري وهوفيك حبشيان:

المقطع 4:

يتّجه هشام نحو سيارته المركونة على ناصية الشارع... رباعية دفعٍ برّاقة، هي ورقة اللّعب الوحيدة بحوزته لإعطاء الانطباع بانتمائه لطبقة مالكي الثروات... يجازف شحّاذ هزيل ومقعّر بالاقتراب منه. يمد الشّحاذ يده نحو فمه بحركة تستجدي سيجارة...

يتجاهله هشام وكأنه شفاف، أو متوفّر على موجة وجودية مختلفة تتعذّر عليه رؤيتها، ثمّ يتراجع ويعطيه سيجارة...

حكيم: هل يعدّ منح سيجارة عملاً سيئاً؟

منير: ثمّة جدال في المسألة... التّدخين سيء... إنه تدمير ذاتي لمرفق عام يدخل في الملك الإلهي... وفي نفس الوقت... النّاس تصير رماداً وغباراً في نهاية المطاف... مثل السجائر... لا يمكننا التحدث بشكل ملموس عن انتحار هنا... لأن النية الأصلية هي فقط أن يمنح المرء نفسه القليل من المتعة، ليس أن يقتل نفسه... لذا، فالتدخين ليس سيئةً... ولكن، هل يعدّ إعطاء سيجارة لمتسول صدقةً؟ هذا نقاش آخر... هل يمكن أن نكون كُرماء في منح السم؟ من يدري... المشرّعون مازالوا يتجاذبون هالاتهم في هذا الموضوع رغم أن بدايات التدخين ترجع إلى 1843... لا تأبه... مادام هناك غموض... فلننتظر القوانين الجديدة!

حكيم: طيب، أسجّل أم لا؟

منير: لا!

يصعد هشام مع سيجارته إلى السّيارة. ينظر إلى نفسه في مرآة الرؤية الخلفية التي تعزل عينيه وتسبغ على صورته بعضاً من الحزم، مزيج من الحضور والثّقة...

حكيم: أليس الغرور عملاً سيئاً؟

منير: خطيئة صغرى...

حكيم: هل أسجّل ذلك؟

منير: مهمتنا ليست كتابة الخطايا، بل السّيئات... المراقب هو المكلّف بالخطايا البسيطة منها والكبرى... من الأفضل لك أن تستوعب هذا المبدأ الهرمي إذا أردت ألّا ينتهي بك المطاف في الغولاغ...

حكيم: ولكن كيف تميز بين السيئة والخطيئة؟

منير: الخطيئة أكثر دهنيّةً وخطورةً... نخرج القلم الأحمر لكتابتها... هل لديك قلم أحمر في جهازك اللوحي؟

حكيم: اه! كلّا!

منير: هل تستطيع الكتابة باللون الأحمر؟

يحاول حكيم بينما يتابعه منير بنظرة حائرة.

حكيم: لا أستطيع!

منير: انظر... الخطيئة تدوّن بالبنط العريض، بخطّ غليظ وفاضح... أما نحن فنكتب النص الذي لا يحب أحد قراءته... هل تفهم، تلك الحروف الضئيلة التي تتدافع مشكّلةً صهارة نصية...

حكيم: لا أحد يقرأها؟

منير: من لديه الوقت لقراءة هذه الحماقات...

حكيم: ما الفائدة إذن؟

منير: هناك حاجة إلى تخزين أفعال الجميع، وأرشفتها، ووضع علامات عليها بقلم لا ينمحى... حتى يكونوا قادرين على إجراء عمليات تحقّقٍ مفاجئة في الآخرة... ينبغي أن يكونوا مستعدين لإخراج ملف لأي شخص مرّ من الأرض... أن يحصل كل فرد على سجلّه، تأشيرة دخوله وجواز سفره... لن يقبل الله بأي مهاجر غير شرعي... هذه القاعدة الوحيدة... سيتم تخصيص ملف لجميع أبناء آدم وحواء، والتجسس عليهم، ثم ختمهم بالشمع الأحمر... سيزوّدون بكشف حسابات من مصلحتهم أن يكون ساراً للأنظار حتى يصلوا إلى الحياة الأبدية: هكذا هي الأمور! المساكين يتعيّن عليهم تسديد دين آدم... والله لا يقبل بالمفاوضات ولا التماطل...

حكيم: أشفق على أبناء آدم من هكذا جدّ أكبر عديم المسؤولية وأناني...

منير: حواء الغبية هي المذنبة...

حكيم: هل أنت متحيّز جنسيا؟

منير: أبدا... أنا لاجنسي بالأحرى!

حكيم: لماذا تظلم هذه المرأة المسكينة إذن؟

منير: لا أعلم... هي السبب في خوزقتنا على هذه الفانية...

حكيم: أعتقد أن الأمور ما كانت لتكون إلا على هذا النحو، لأن كل شيء بكتاب... من الأفضل لنا أن نتكيف مع الوضع ونتعامل بأفضل طريقة ممكنة مع الواقع، بدلاً من الشكوى والاختباء وراء فرضيات من وحي الخيال...

يتلو ذلك صمت مرهِق، ثقيل وخانق.

يدع منير المزيد من الصمت يتدفق. يسود بينهما سكون لزج ونتن يشبه رمال الشك المتحركة حيث يتخبّط الملاك المبتدئ.

لا يزال هشام ينظر إلى نفسه في المرآة الخلفية. يقوم بتصويب منحنى حاجبيه قبل تشغيل السيارة...

تنطلق موسيقى احتفالية لتملأ المقصورة فتهتزّ لإيقاعاتها هالتا الملَكين المحاسبين...

حكيم: ماذا يحدث؟

منير: لا تقلق... إنه مجرد صوت جهير يجعل الهالات تهتز... ستعتاد على ذلك...

حكيم: هذا مؤلم!

منير: أعلم، استغرق مني بعض الوقت لأعتاد عليه أيضاً... أبقِ فمك مفتوحًا... هكذا أفضل...

يستجيب حكيم للنّصيحة. يبدو كما لو أن فكّه قد علق. يميل منير تحت ذقن هشام كي ينظر إليه. تُضحكه وضعية حكيم الذي يتمسّك بلوحه بيد وبالهالة بالأخرى، بينما يُبقي فمه مفتوحًا...

منير: لا تكن دراماتيكيًا هكذا... إنها مجرّد موسيقى...

حكيم: كيف يطيق الحمّالون كل هذا الصّخب؟

منير: سوء الذوق جزء من الطبيعة... هكذا مشيئة الله...

حكيم: لا أريد أن أطلق أحكام قيمة... أعلم أنني مجرد ملاحظ غير موضوعي لما يجري هنا، لكن يبدو لي أحيانًا أن البشر ليسوا أكثر ذكاءً من آدم المسكين... أطفال غير ناضجين...!

منير: انتظر لتشاهد ما يفعله الأطفال، وسترى أن الأمر أسوأ مما تعتقد!

حكيم: أتسعى لترويعي؟

منير: لا، لا، نحن في هذه الفوضى معًا، ومن الأفضل أن نجني القليل من المتعة من إنجاز مهمتنا على الأقلّ... كان لطفي يحب المرح... لقد منحنا هذا مسحة تمرّد مناهضة للنّظام القائم ممّا ساعدنا على اجتياز الأوقات العصيبة...

حكيم: ها أنت تتكلّم برطانة!

منير: أعرف، لكني واثق مما أقول!

حكيم: لم يعد هناك حوار إذا اكتفيت بفهم نفسك...

منير: دعني وشأني!

يرخي الصّمت ستائره مرة أخرى.

يراوغ هشام بالسيارة بين أزقة المدينة المزدحمة. يتوقف عند الإشارة الحمراء، منغمساً في غائط موسيقاه الصاخب. تتوقّف سيارة على يساره. ينظر هشام بثبات محموم إلى السائقة الجميلة ذات الشّعر النّاعم وراء المقود. امرأة فاتنة بأنف معدّل، وجنتين مخضّبتين، وشفتين منفوختين. تبدو كما لو أنها ترتدي قناع جراحة تجميل حول فمها المحشو بأسنان زائفة تشعّ ببياض مريب...

هشام: مرحباً!

لا ردّ من الشّابة. يوقف هشام الموسيقى، وينقر بأصابعه على نافذتها. تنتفض وتنظر إليه من خلال نظارات شمسية عملاقة تخفي نصف وجهها العلوي. يخلط هشام الهواء بحركة من يده ليحثها على فتح النّافذة...

تخفض الشابة زجاج النافذة الجانبية إلى المنتصف بدافع الفضول...

هشام: هل ستؤدين صلاة الجمعة أم أدعوك لتناول الكسكس؟

السائقة: لا أحب الكسكس...

هشام: ولا أنا... ياباني... صيني... أو مقلاة سمك متنوّع بالأحرى؟

تخلع السائقة نظاراتها بحركة غاضبة، وتلسعه بنظرة محمّلة بقدر لابأس منه من الكهرباء السّاكنة. الفتاة، بحاجبيها المرسومين بإفراط وعينيها الكسولتين، لا تتمتّع في نهاية المطاف بأي جمال خارج نطاق العناية الجراحية...

السائقة: لا شكرا!

هشام: هذا أفضل، أخشى أن تنقطع شهيتي إذا أحضرتِ وجهك معك!

تطلق عليه شتيمة مسعورة لا تتأخرّ مقصلة الزجاج الصّاعد في جزّ رأسها حين يلتقي بحافة النّافذة...

يتحول الضوء إلى الأخضر، وتقلع السيارة لتمتزج بالحمم الحيّة لحركة المرور.

يتسلى هشام بالتزلج على بركة الإسفلت والحديد بين سائقين غاضبين، يتناطحون الأبواقَ ويطلقون الشتائم كالمجانين...

منير: ألا تحرّك ساكناً؟

حكيم: ماذا افعل؟

منير: ألم ترَ أنّه تحرّش بذات الوجه القبيح عند إشارة الضوء الأحمر!

حكيم: لم ينظر إليها بإصرار!

منير: لكنه أهانها!

حكيم: حقاً؟

منير: نعم، لقد نعتها بالذميمة، وقال أنّها تثير غثيانه!

حكيم: ليس هذا ما سمعت!

منير: قال ذلك بسخرية، لكنه آذى مشاعر الشابّة البشعة التي أمضت، لا محالة المسكينة، خمس ساعات في التّجمّل قبل الخروج...

حكيم: هل يعتبر قول الحقيقة سيّئةً؟

منير: لا يتعلّق الأمر بمسألة حرية التعبير، بل بقلّة كياسة و... صفاقة!

حكيم: نقص الكياسة ليس عملا سيئاً... بل من سمات الشّخصية.

منير: اه...

حكيم: لا أريد أن أدوّن سيّئة من دون تثبّت... مسؤوليتنا جسيمة جداً...

منير: لعلك على حق... على كل حال، هذا الحمّال الأحمق لا يأتي تقريباً بأي عمل صالح سوى مع والدته... لا احتمال هناك كي أعانيَ من تشنّج الكتّاب...

حكيم: هكذا أفضل... هناك مصير روح أبدية على المحك!

منير: لا تهوّل الأمور أرجوك... أسلوب عذراوات الميلودراما هذا يوتّرني!

حكيم: آسف!

منير: كفّ عن الاعتذار!

حكيم: أنا أتأسّف عليك!

منير: هه؟

حكيم: تبدو أحياناً كما لو أنّك ضقت ذرعاً من فرط إرهاق المهمة، وأحياناً أخرى، مستسلماً للخمول... ألا تريد أن تحسم في الاختيار بينهما...

منير: أنت محقّ... لقد نكست راياتي قليلاً... منذ رحيل لطفي وأنا شارد الذّهن... لا أمتلك شجاعته للتّخلي عن الأبدية... عندما ترى كيف تبدو الحياة بين أبناء آدم... عليك أن تتحلى بشجاعة كبيرة حتى تغطس أصبع قدمك فيها... لست لامبالياً مثل ذلك الأحمق لطفي... أو ليست لديّ جسارته ربّما...

حكيم: لهذا تختبئ وراء السخرية اللّاذعة والمزاج السيئ... تجعل الآخرين يدفعون ثمن أخطائك!

منير: معك حق... ومنذ الصباح وأنا أتساءل: لماذا هالتك متألّقة بينما هالتى باهتة ومترهّلة؟

حكيم: هل وجدت الجواب؟

منير: لقد انتهى أمري على الأرجح!

حكيم: لا، أنت فقط مصاب بخيبة الأمل!

منير: هل تعتقد ذلك حقاً؟

حكيم: نعم، وهذا معدٍ للآخرين أيضاً، لذا أنا مسرور أنّ هذا الحديث دار بيننا... ينبغي أن نجد طريقة لدفعك إلى الأخذ بزمام نفسك من جديد واجتثاث هذا الضّجر!

تحرير من طرف أشرف الحساني
في 17/04/2023 على الساعة 18:00, تحديث بتاريخ 17/04/2023 على الساعة 18:00