أشرف الحساني يكتب: حياة مُعلّقة تُشبه حبل الغسيل

أشرف الحساني / ناقد فني

في 08/09/2023 على الساعة 18:30, تحديث بتاريخ 08/09/2023 على الساعة 18:30

مقال رأيمن بعيد أراهم يمشون في هدوء. يحملون أكياساً ثقيلة فوق ظهورهم. يبدون لي من بعيد وكأنّهم جبال شامخة تنحني تواضعاً أمام سخرية القدر. على سكّة القطار القديم، أقف وحيداً وسط جموع من الناس. أشعر كأني غائبٌ رغم حضوري. الناس تدردش في أمور عامة وأنا صامت وشبه مندهش من صمتي.

في الجهة المقابلة من القطار، ثمّة آخرون يقفون في صمت، بينما الكلّ ينظر إلى بعضه البعض. قطٌ أبيض صغير يلعب بجواري على سكّة الحديد الصدئة. يقفز هنا وهناك. تعودت أنْ ألتقي به كلّ صباح بالمحطّة. أحياناً أصعد عبر الدرج القصير على جهة اليسار، فأجده أمامي يلعب وكأنّه ينتظرني ليطمئن عنّي. « لا تقلق، أنا بخير أيها القط اللطيف؟ » هكذا أقول له في صمتٍ وأرحل.

منذ اليوم لم تعُد ابتسامة طفولتك تخفي بعضاً من آلامك ولا السماء ستجعل جُرحك يندمل ببطء. إنّه موعد الرحيل صوب مكان طالما آمنت أنّك منه. يعاتب نفسه يومياً لأنّه لم يرحل مثل أصدقائه الباقين. يُفكّر أحياناً ماذا لو ذهب معهم في ذلك المساء الماطر، لكان جثّة هامدة مثلهم. لم يذهب معهم فربح حياته. لكنّ العيش بدونهم مؤلم ولا يستحقّ الذكر. كان الكل في تلك الليلة البعيدة يبكي من شدّة الوجع مما أصاب شباب الحي. أربعة شباب يغرقون في البحر، بعدما أرادوا أنْ يخترقوا المتوسط اللعين للهرب من شظف العيش صوب إيطاليا التي طالما حلموا بها.

في ذلك المساء كان هناك عرس لابنة الجيران، فجاء الخبر الصاعق. تحول العرس إلى مراسيم للدفن. لم تكمل العروس ضحكتها وفرحتها، لأنّ شقيقها كان واحداً منهم. تبكي وتضرب كلّ من بجانبها، ثم تجلس فتخبط بالضرب على الأرض وعلى حظها السيء. بعد أيام استمرّت الحياة في الحي، بعدما تم نسيانهم. إلاّ هو ظلّت صُوَرهم تملأ غرفته. خطوط سوداء متموجة نقشها الأصدقاء، ماتزال إلى اليوم على العمود الكهربائي الإسمنتي الواقف وسط الحي شاهد على طفولةٍ بائسة لن تنقضي. وحيداً صعد إلى غرفته وبكى طويلاً مثلما كان طفلاً. إلى اليوم ماتزال أشباحهم تُطارده. تمنّى في أكثر من مرّة لو أنّه ذهب معهم ومات وانتهى كلّ شيءٍ، على الأقلّ سيموت وسط من يُحبّ.

كلّما وقف على باب محطّة القطار يتذكّرهم، يلمح وجوههم في وجوه مارةٍ آخرين. يحلم أنْ يراهم مرّة أخرى، يشعر بدفء قلوبهم وبضحكتهم العالية بنُكتهم الفاحشة وبأغانيهم الحزينة الرائعة، وهي تخترق الحي وتجرح بكارة المساءات الماطرة. يتذكّر كم كانوا يملئون حياته اليومية فرحاً: التردد على المكتبات والمقاهي، قراءة الشعر، كتابة قصص الحب، خشبة المسرح، التجوّل صيفاً على متن دراجةٍ هوائية، السباحة في النهر، كرة القدم.

وحده أحبّهم، وحده آمن بهم وبقُدراتهم على النجاح لو كانوا معه الآن.

أصدقائي تذكّروا: أنتم أحياء باقون في ذاكرة لا تشيخ، وأنا ميت يُحبّ الضوء، يُحاول يومياً أنْ يحيا، وأنْ يعيش وقتاً مستقطعاً في اللامنتهى، لكنّي أفشل في ذلك، لأنّ حياتي اليوم بدونكم مثل زورقٍ مثقوب، حياة بئيسة مُعلّقة تُشبه حبل الغسيل..

تحرير من طرف أشرف الحساني
في 08/09/2023 على الساعة 18:30, تحديث بتاريخ 08/09/2023 على الساعة 18:30